غسّان سعودومع انتقال صفير من بكركي إلى الديمان للاصطياف، كان يفترض أن ينتعش صالون البطريرك قليلاً. لكن العزلة غير المقصودة طبعاً بقيت هي نفسها: لا السياسيون يستيقظون باكراً لمرافقة البطريرك في رياضته الصباحية، ولا المؤمنون يتقاطرون من كل الأصقاع المارونية للصلاة خلفه. حتى الرعايا كانت زياراتهم للبطريرك خجولة هذا العام. معظم البشرّاويين استقبلوه في كنائسهم، والزغرتاويون قاطعوه كما لم يحصل من قبل. أما الأصدقاء الذين يشاركون البطريرك يومياً النصح والإرشاد أمثال فارس سعيد، فاستبعدوا الديمان، فيما كان جواد بولس ـــــ الزغرتاوي المطيع ـــــ يستقرب معراب الكسروانية لبحث «الشؤون الإنمائيّة التي تتعلّق بمنطقة زغرتا ـــــ الزاوية». وفيما يزداد الملل مللاً في حضور النائب إيلي كيروز، تركت السفارة الأميركية ـــــ هي الأخرى ـــــ البطريرك وحيداً. وهكذا، لم يبق للبطريرك سوى الاستفادة من وجوده «قرب ربه» ليحاول أن يفهم كيف تسير هذه «العربة التي يجرها حصانان، واحد الى الأمام وواحد الى الخلف»، ولماذا يرسله الرئيس سعد الحريري إلى الحرب مع سوريا ليعود هو إليها، وكيف تريده القوات اللبنانية أن يحارب حزباً تتبرع هي نفسها لاحقاً لتحميه برموش عينيها.
وسط هذا كله، دون مبررات أو مقدمات، يرسل صفير النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم إلى بنشعي، حاملاً إلى رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية دعوة هي الأولى من نوعها، يدعو بواسطتها البطريرك فرنجية لتناول الغداء اليوم إلى مائدته في بشري. وافق فرنجية كعادته مع مبادرات مماثلة، دون أن يضيف أمام المقربين منه أي تفصيل أو معلومة عن مضمون الدعوة أو خلفيتها. وهو بحسب أحد هؤلاء، سيكون أكثر ارتياحاً هذه المرة، باعتبار أن صفير يطلب اللقاء ويفترض أن يكون هو المبادر إلى الكلام.
ويبدو واضحاً أن ثمة أكثر من وجهة نظر مَرَديّة تجاه لقاء اليوم. فالبعض لا يعلّق آمالاً كبيرة على الزيارة التي يصفونها بالحدث العادي الذي لا يستحق التعويل عليه بعدما ثبت رسوخ الإيمان البطريركي بأن مصلحة المسيحيين تكون بإبقائهم رأس حربة في المشروع الأميركي لإزعاج سوريا ومواجهة حزب الله. وبرأي أحد المرديين، فإنّ تعهّد فرنجية للبطريرك بتجنّب الصدام المسيحي ـــــ المسيحي إن حصلت اضطرابات أمنية داخلية لا يقدّم أو يؤخّر بشيء، لأنّ «أشرار المجتمع المسيحي» يلعبون في ملعب البطريرك.
لكن وسط شباب المردة، تسود كلمة سرّ واحدة، تفيد بأن لا شيء يفرّقهم عن سيّد بكركي ويبعدهم عنه إلا مواقفه السياسيّة، علماً بأنّ فرنجية، رغم انتقاداته اللاذعة للبطريرك، لم يعمل يوماً بجدية لإضعاف سيد الصرح. وهو رغم المراجعات الكثيرة، يرفض الكشف عمّا يملكه من وثائق تتعلق بالعمل البطريركي، ويأبى التوسط للصحافيين عند أحد الآباء المقرّبين منه الذين يملكون ملفات يُقال إنها موضع محاكمة سرية للبطريرك في الفاتيكان، كما لا يقبل استخدام علاقته المتينة ببعض الرهبان للتأثير ولو قليلاً على مكانة البطريرك.
في المقابل، ثمّة من يحاول تبهير الغداء وتمليحه، فيبدي

فرنجيّة، رغم انتقاداته اللاذعة للبطريرك، لم يعمل يوماً لإضعاف سيّد الصرح

اعتقاداً بأن البطريرك يلحظ حجم التغيّرات الإقليمية، ويفهم لغة الحريري رغم قناعاته الجعجعية، ويعلم أن بوابة فرنجية الدمشقية تختلف عن سائر الأبواب. ويعتقد هؤلاء أن مجرد تناسي صفير (الذي لا ينسى غالباً) عبارات فرنجية بحقه، من انتقاده «رجال الكهنوت الذين يقفلون على أنفسهم فتسير الدنيا وهم يأكلهم الغبار والصدأ»، إلى قوله إن «صفير نهاية المسيحيين»، هو أمر إيجابي جداً. ويؤكّد هؤلاء أنها الخطوة الإيجابية الأولى من صفير تجاه فرنجية منذ المصالحة الشكلية التي رعاها الرئيس ميشال سليمان بين صفير وفرنجية في كانون الأول 2008، وخرج بعدها فرنجية صامتاً، بحجة العيد. ووفق مقاييس هؤلاء، فإن صعود الزعيم الزغرتاوي إلى بشري بصفته ضيفاً بطريركياً، أمر بالغ الرمزية، وخصوصاً أنّ صفير لم يوجّه دعوات مماثلة إلى نائبي بشري وإلى سمير جعجع نفسه، بصفته زعيماً بشراوياً.
في النتيجة، سواء أثمر الخبز والملح أو لا، فإن جعجع لن يكون سعيداً اليوم. لا هو ولا آل معوّض الذين نجحوا في منع صفير من استعادة تقليده السابق الذي يقضي بمروره بقصر الرئيس سليمان فرنجية في طريقه إلى الديمان. وسيسود الوجوم وجه من رفع صور البطريرك في زغرتا وإهدن ظناً منه أنها تغيظ فرنجية، علماً بأن غالبية هذه الصور التقطتها عدسة فرنجية نفسه.
أما البطريرك، فسيشهد صالونه تدافعاً من جديد. يعرف «سيّدنا» كيف يلعبها.