قبل حصولهم على الهويّة اللبنانيّة، كانت أحلام أهالي وادي خالد كبيرة، ظنّوا أنهم سيقبرون الحرمان وستتهافت الوظائف الرسميّة عليهم وستزورهم الدولة مهنّئة، حاملة الكهرباء والمياه والزفت وغيرها. قليل من الأحلام ينعش قلب الإنسان، لكنه حتماً لا يغيّر واقعه
غسّان سعود
لم يبق أحد في الجمهوريّة اللبنانيّة إلا منّن أبناء منطقة وادي خالد بالهويّة اللبنانيّة التي أعطيت لهم بعد إثباتهم «استحقاقهم الانتماء إلى وطن الأرز». ففي كل موسم انتخابي، يزورهم أهل تيار المستقبل مذكّرين بدور الرئيس رفيق الحريري في تنسيبهم إلى الدولة اللبنانية. في المقابل، يأتيهم مبعوثون من وراء الحدود ينبّهونهم إلى أنه لولا النفوذ السوري لما عرف انتسابهم إلى الدولة اللبنانية الطريق. ويقصدهم النائب السابق وجيه البعريني راوياً عن دوره الاشتراعي في إمرار مرسوم قانون التجنيس عام 1994. أما نائب كسروان نعمة الله أبي نصر فيعتقد أن له في رقابهم ديناً لمدى الحياة. كيف لا والحديث عن منح الهوية اللبنانية.
مرّ على لبننة وادي خالد ستة عشر عاماً، كانت كافية ليكتشف جزء كبير من أهل الوادي أن الهوية التي اعتقدوها نعمة هي نقمة. فبحسب أحد شباب الوادي كانت الحماسة في مطلع التسعينيات للحصول على الهوية كبيرة، لاعتقاد حاملي أوراق قيد الدرس أن احتضان الدولة اللبنانية لهم سيغيّر حياتهم. قبل أن يفاجأوا بأن الهوية وحدها لا تكفي. ففي أول عشر سنوات عليهم القيام بواجباتهم كاملة تجاه دولة لن تبادلهم الواجب ولن تفتح لهم أبواب الوظائف إلا بعد أن يصبحوا «لبنانيين منذ أكثر من عشر سنوات». هكذا اقتصر تعرّفهم إلى المؤسسات الرسمية والمؤسسة العسكرية على جباة الضرائب والخدمة الإجبارية فقط. لكن هذا لم يحبط عزيمتهم، يقول علي فهد الأحمد، فانكبّوا على تعليم أبنائهم، معتقدين أن شهادة جامعية مكبوسة مع هوية تكفي لفتح أبواب الجنّة.
بعد ست سنوات على اتّصاف أهل وادي خالد بأنهم «لبنانيون منذ أكثر من عشر سنوات» يسود الإحباط في المنطقة، يقول حسن محمد المصطفى، أستاذ مادّة الرياضيات. وتبدأ الروايات: على أصابع بضع أيدٍ يعدّون الذين وفّقوا في الانتساب إلى مؤسسة الجيش، أما المنتسبون إلى القوى الأمنية فيكفيهم أصابع ثلاث أو أربع أيدٍ. لأن الوسائط تؤدّي دوراً، ولأن «كبار الضباط يسألون قبل وضع إشارة القبول أو الرفض عمّن يدعمنا»، ولأن «السلاطين يخدمون ناسهم ونحن ليس لنا في هاتين المؤسستين إلا ضابطان لم يعرفا من النفوذ بعد إلا القليل القليل». أما «الأساتذة الذين يدرّسون في معاهد الوادي ومدارسها فيأتون من خلف الجبل، لأن المتعلمين هنا مصابون بعاهة أو نقص»! أيّ عاهة هي هذه؟ عاهة تجعل السياسيين يتوسّطون لدى وزارة التربية للتعاقد مع أشخاص من «آخر الدنيا» ليأتوا ويعلّموا في مدارس منطقة تزخر بمتخرّجين يحملون الاختصاصات ذاتها، تقول إحدى الصبايا. وتشير صديقتها إلى تخرّجها من الجامعة اللبنانية ـــــ قسم الرياضيات منذ ثلاث سنوات قضتها من دون عمل، مؤكّدة أن في كل وادي خالد هناك أربعة أساتذة مثبّتين فقط، ومنذ عامين لم يجر التعاقد مع أيّ مدرس جديد من الوادي. أما المصطفى فيلفت إلى أن حال أهل الوادي مع قطاعي الجيش والتعليم تبقى أفضل بكثير من حالهم مع الوظائف الرسمية الأخرى، إذ تكاد لا تجد أي موظف من وادي خالد. ويروي أحد الشباب في هذا السياق أن موظفاً واحداً يعمل في قسم الدفاع المدني في الوادي وهو لا يعرف قيادة سيارة الدفاع المدني، وبالتالي يستعين أهل الوادي بالدفاع المدني التابع لبلدة القبيات كلما شبَّ حريق.
لم تقدّم الهوية وظائف إذاً. ماذا عن البنية التحتية؟ الكهرباء تأتي نحو نصف ساعة وتغيب ست أو سبع أو ثماني أو تسع ساعات، «لا أحد يعلم كيف هو مزاج الموظف وموقفه من أهل الوادي اليوم»، علماً بأن خط التوتر العالي مدّ قبل نحو ستين عاماً حين كان عدد القرى والمنازل محدوداً، أما اليوم فتضاعف العدد خمس مرات على الأقل، وما تزال الشبكة هي نفسها. وتفتقد غالبية البلدات التي ليس فيها بلديات (وحدها بلدة المقيبلة فيها مجلس بلدي) الإنارة العامة. أما المياه فلها في المنطقة الغنية بالينابيع التي تحتوي خزاناً كبيراً من المياه الجوفية، قصصها: تفتقر معظم المناطق إلى شبكة مياه موصولة بالمساكن، عمر معظم الشبكات يتجاوز أربعين عاماً، هناك مزاجية في التوزيع، تتشدد القوى الأمنية في منع حفر الآبار من دون تراخيص والحصول على الترخيص يحتاج عادة إلى نحو سنتين. إضافة إلى ذلك، تعاني بعض المناطق من تلوث المياه الجوفية بسبب عدم وجود نظام سليم للصرف الصحي. ويذكر هنا أن معظم المنازل استعاضت عن شبكات الصرف الصحي بالحفر الصحية الملاصقة للمسكن، علماً بأن الأهالي أطلقوا على بلدة في وسطها تجمّع للمياه اسم الرامة، لكن البركة تحولت اليوم مجروراً كبيراً ترقد المياه الآسنة فيه، ويقضي جيرانه حياتهم متنقلين من مستشفى إلى آخر. في وقت يخلو فيه مستوصف وادي خالد، التابع لوزارة التنمية الاجتماعية، غالباً من الدواء، والطبيب المداوم في المركز يعالج مختلف أنواع الأمراض.
ويروي أحد المسنّين في بلدة الهيشة أن معظم أهالي الوادي يقصدون مدينة حمص ليتطبّبوا، فأجرة الطريق من وادي خالد إلى حمص لا تتجاوز ألف ليرة (مقابل أربعة آلاف من الوادي إلى طرابلس). ومعاينة الطبيب هناك لا تتجاوز خمسة عشر ألفاً هناك، فيما هي هنا خمسون ألفاً على الأقل.
ليست الطبابة كل شيء، بعضهم يقصد سوريا ليتعلم، ومعظم من في الوادي يحلم بأن يقبل في الجامعات السورية، فالوصول إلى هناك أسرع وأوفر، واللغة العربية أسهل على بعضهم من خليط اللغات في الجامعة اللبنانية، فضلاً عن أن البعض توتّره تلك النظرة الدونية التي تتحكم في عيون بعض اللبنانيين فور تعرفهم إلى أحد أبناء الوادي. وفي هذا السياق تقول سلمى إنها لا تطيق تلك الجملة: «آه من الوادي، ما مبيّن عليكي!»، أو «من الوادي وماذا تفعلين في الجامعة»؟
وفي الوادي يصعب إيجاد سلع صناعة لبنانية، فمن جهة يشجع رُخْص المواد الغذائية في سوريا أصحاب الدكاكين كما معظم العائلات على شراء احتياجاتهم من سوريا مباشرة. ومن جهة أخرى، تستبعد معظم المؤسسات الوادي، فتتردد في إيفاد مندوبيها إلى قراه المعزولة.
اللافت أن أهالي وادي خالد يعجزون عن إيجاد إيجابيات من حولهم، ورغم ذلك تظهر عليهم ملامح السعادة والاقتناع بما «كتب». الأطفال سمعوا أن «الكمبيوتر مليء بالألعاب» وأن في إمكانهم رؤية أقربائهم المسافرين عبر شاشته. وسمعوا أيضاً أن المدارس في بيروت فيها «مراجيح وزيزقانة والكثير من الشوكولا». هؤلاء الأطفال يقصدون المدرسة للعب حتى في أيام العطل، فملاعبها تصلح أكثر من الشوارع لكرة القدم، ومعظم هذه المدارس مشرعة أمامهم. وبعضها ليس فيها من المعدات اللازمة للتعليم إلا اللوح، الطبشور والممحاة. وفي هذا المجتمع، تبدو لعبة المعلمة والتلاميذ ابتكاراً حديثاً جداً.
ومن بلدة إلى أخرى، في الوادي الذي يبعد عن بيروت نحو 160 كلم ويضمّ أكثر من خمس عشرة بلدة، تزداد الطريق سوءاً كلما ازدادت حاسة الاستكشاف اتّقاداً. هذه الطريق شقت عام 1960 ولم تشهد من يومها إلا الترقيع، وفيما رأف النائب السابق جمال إسماعيل ببعض القرى، فزفّت الطرق الترابية والصخرية التي توصلها بالطريق العام، بقيت قرى أخرى تعيش وحدها المآسي، لا تصلها إلا الحمير. وللحمير في هذه المنطقة منزلة خاصة، فهنا الأطفال يعرفون جيداً كيف يغنّون: «كلهم عندهم سيارات وجدّي عندو حمار». هذا الحمار يحمّله الأطفال جرار الغاز السورية ويعبرون به النهر إلى الأراضي السورية، يفرغون الحمولة ليضعوا عليه جراراً مليئة هذه المرة ويعودون به إلى منزلهم عبر النهر مجدداً. هكذا يصبح التهريب جزءاً من عدة اللعب. واللعبة هنا رابحة، ففي سوريا يبلغ ثمن القارورة (13 كيلوغراماً) نحو سبعة آلاف ليرة لبنانية، أما في لبنان فثمن القارورة (10 كلغ) نحو عشرين ألف ليرة. اللبنانيون يُدخلون من سوريا الغاز والمازوت وبعض أنواع المواد الغذائية، وفي الوقت نفسه يُدخلون إلى سوريا السكر والفول والباطون. وهناك مافيات من رجال أعمال لبنانيين وسوريين «أكبر من الوادي» تُدخل من لبنان إلى سوريا عبر بعض معابر الوادي أجهزة كهربائية كالبرادات والغسالات والتلفزيونات. ويشار إلى أن البلدات اللبنانية المجاورة للنهر الكبير في منطقة الوادي تقابلها مباشرة على الضفة الأخرى من النهر بلدات سورية. وبعد اتفاق على تبادل بعض الأراضي ليكون السوري في سوريا واللبناني في لبنان، حافظت العائلات على العلاقات الودية، علماً بأن النهر يضيق مرة وينخفض علوّه مرة أخرى ليضمن حسن الجوار بين الشعب الذي يصحّ وصفه، في تلك المنطقة تحديداً، بالشعب الواحد في دولتين. وبالعودة إلى الطريق، يذكر أن معظم أبناء الوادي يئسوا من إمكان إصلاحه وسئموا تعطل السيارات، فلجأوا إلى شراء دراجات نارية، يستوردها بعض تجار الوادي من الصين خصوصاً للوادي، وثمن الواحدة منها نحو 350 دولاراً.
هذا كله عمّا لم يوفره الانتماء رسمياً إلى الدولة اللبنانية، فماذا في المقابل وفّر هذا الانتماء؟ السؤال الأول يسهل على معظم أبناء الوادي الإجابة عنه، أما الثاني فيثير ارتباكاً. يتفحّص علي فهد الأحمد، الذي بنى في بلدة الهيشة فيلا أفخم من الفيلات في أكثر المناطق اللبنانية غلاءً، ثم ينظر حوله إلى الأراضي التي تغمرها أشجار السنديان ويحافظ الناس عليها رغم لامبالاة القانون، ثم يجد إيجابيتين: الأولى توفيرها لحامليها القدرة على السفر، فهاجر منهم كثيرون إلى أوروبا وأوستراليا والبرازيل، بعدما وفدت إلى المنطقة مجموعة من «سماسرة الحقائب أقنعوا بعض الأهالي بأن يقايضوا أراضيهم بأوراق الهجرة». والثانية سماحها لبعض أبناء الوادي بالحصول على قروض من المصارف لشراء الفانات. هذه الفانات التي تحوّلت انطلاقاً من عام 1995 إلى مصدر الدخل الأساسي لأبناء الوادي، حيث اشترت كل عائلة في الوادي تقريباً فاناً خرجت بواسطته من وادي خالد إلى العالم (مع صوت علي ديوب يرتفع من هذه الفانات طبعاً). إضافة إلى هاتين الإيجابيتين، هناك بعض الوظائف الرسمية طبعاً، مع الأخذ في الاعتبار أن أهل الوادي موعودون منذ سنوات بمجموعة مشاريع مثل المحكمة الشرعية، دائرة للأحوال الشخصية، المركز الثقافي، تكملة الطرقات عن طريق وزارة الأشغال اللبنانية، تجمّع المدارس في قرية الهيشة (تبرع الأهالي بأراضٍ خاصة لإنجاح هذا المشروع)، إنشاء شبكة مياه جديدة وشبكة صرف صحي (الدراسة جاهزة)، تجديد خط الكهرباء (هناك اليوم ملعبان لكرة القدم هما عبارة عن أرض بور)، مكبات نفايات (تكاد ترسم أكياس النفايات حدود القرى، حيث تنتشر بين كل بلدة وأخرى في الوادي أطنان من النفايات.

الكهرباء تأتي نحو نصف ساعة وتغيب ست أو تسع ساعات

معظم المنازل استعاضت عن شبكات الصرف الصحي بالحفر الملاصقة للمسكن

بعض المدارس ليس فيها من المعدات اللازمة للتعليم إلا اللوح والطبشور والممحاة
ويلفت هنا شاب يعمل في أحد المطاعم في العاصمة إلى تعرّفه في وظيفته إلى شباب آخرين يفدون من مناطق تُعرف بالأطراف، واكتشافه خلال تبادله الأخبار معهم أن أجهزة الدولة لم تكن أبداً أكثر كرماً معهم مما هي عليه مع أهل الوادي.
لكن، يتابع الشاب، في معظم المناطق الأخرى هناك أحزاب أو طوائف أو مؤسسات دولية وشركات خاصة تجتهد كل من موقعها لتحسين أوضاع المنطقة، حجراً وبشراً. أما في الوادي، يقول الشاب، فالمؤسسة الدينية السنّية تغسل يديها والسياسيون يعدّوننا تحصيل حاصل والمؤسسات الدولية تغمض عينيها عن مآسينا والشركات الخاصة تعدّنا، حتى إذا وفدت إلى المنطقة، خارج الـ10452 كيلومتراً مربعاً، فتحاسبنا بالليرة السورية. وبانفعال يقاطعه صديقه مردداً أن شعب وادي خالد يتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عمّا يحلّ به، فهو شعب مسالم جداً لا يعرف كيف أو متى يرفع الصوت، وبعضه صدّق بأن عليه تقبيل كفّيه ليل نهار وشكر ربه لأنه أعطاه فرصة أن يكون لبنانياً.
بعيداً عن الجنسية العظيمة، هناك في وادي خالد عالم آخر. منازل الباطون بدأت تزحف إلى بعض البلدات، لكن المنازل الحجرية القديمة ما تزال هي الغالبة. بين المنزل والآخر شجيرات وأراض مزروعة بندورة. وقبالة كل منزل بضع دجاجات تقاتل مناقيرها للحصول على دودة، وديك يبرق عرفه كأنه استمرار للشمس. أهل هذه المنازل المفتوحة دائماً للزوار لا يشعرون بالوقت رغم ثقله المفترض على أشخاص لم يعرفوا من وسائل الراحة واللهو إلا البعض اليسير جداً، يقضون وقتهم بشرب الشاي قبالة المنزل، متفاعلين مع «الأراكيل» ومتناقشين بأحداث حلقة أمس من المسلسل السوري أو التركي الذي يشاهدونه. هنا الناس يكادون أن يكونوا بِلا همّ، يروون عن معاناتهم، يبهّرون كثيراً ويملّحون، لكنهم سرعان ما يستعيدون بسمتهم. بالنسبة إليهم الدولة وتقديماتها لا تقدم ولا تؤخر. لديهم ألف سبب ليعتزّوا كثيراً بأنفسهم؛ هم أولاً أبناء عشيرتي الغنام والعتيق. وثانياً هم سكان منطقة سكنها الصحابي خالد بن الوليد الذي تقول الرواية إنه كان يبيت في الوادي، متهيّئاً لفتح مدينة حمص حين ظمئ جيشه فضرب بسيفه صخرة خرج منها نبع مياه صار مجراها يعرف بالنهر الكبير.


مختار للأبقار

لا يشعر أهالي منطقة وادي خالد بأن هناك ما ينقصهم، هم يعيشون قانعين بما لديهم، جيرانهم في البلدات اللبنانية (يحدّهم من الشرق والشمال والغرب سوريا، أما الجنوب فمفتوح على منطقتي الدريب الأوسط وجبل أكروم) لا يواجهون أي مشاكل معهم، والأجهزة الأمنية تسرح وتمرح في ديارهم من دون أن تصادفها أي إشكالات جدية. لكن في 28/7/2007 قرر مجلس الوزراء إنشاء القوة المشتركة لمراقبة الحدود الشمالية وضبطها. وقيل يومها إن مهمة هذه القوة مكافحة التهريب على أشكاله، وخصوصاً تهريب الأشخاص والأسلحة والمخدرات. ليتبين مع الوقت، والكلام لأشخاص من وادي خالد، أن مهمة هذه القوة هي تنكيد حياة أبناء الوادي. فالقوة التي يفترض أن تنتشر على طول الحدود الشمالية في عكار من مصبّ النهر الكبير وصولاً إلى منطقة النبي بري في جبل أكروم لم تنجح في منع التهريب المباشر بين لبنان وسوريا، فاستعاضت عن المراقبة الدقيقة للحدود بدوريات سيارة ترى أن وادي خالد بأكمله خارج الحدود، وبالتالي يكاد يستحيل على سيارة من وادي خالد أن تخرج أو تدخل من الوادي وإليه دون أن تفتش وتصادر معظم حمولتها. ومن الروايات الشعبية يتبيّن أن نقل بقرة أو خروف من وادي خالد إلى بلدة شدرا أو إلى مدينة حلبا يفرض على صاحب البقرة أو الخروف الحصول على ورقة من المختار تؤكد ملكيته للبقرة أو الخروف، مع شهادة المختار بمعرفته للبقرة أو الخروف (ماذا عن الدجاج؟). والورقة من المختار ضرورية أيضاً للمزارعين الذين يودّون إدخال القمح والشعير أو إخراجهما، فالمختار يقدر حاجة الناس إلى القمح أو حجم المحصول. ويشار هنا إلى أن إحدى الدوريات طرقت باب أحد المخاتير لتناقشه في دقة بعض المعلومات التي وفّرها في ورقة رسمية لأحد طالبيها. وتمنع هذه الدوريات دخول الأسمنت إلى الوادي إلا للذين يبرزون رخصة بناء، علماً بأن قوانين القوة المشتركة تكاد لا تطبق إلا على أبناء الوادي، إذ يلجأ بعض هؤلاء، وفق الروايات الشعبية دائماً، إلى استقطاب تجار من حلبا يبيعونهم المواشي أو القمح في الوادي ليقوم هؤلاء بنقلهم إلى المناطق الأخرى من دون تدخل من القوة المشتركة.
أهالي الوادي يؤكدون أنهم زاروا بعض الضباط المعنيين بعمل القوة المشتركة مراراً، لكنّ فناجين القهوة لم تنتج حلولاً. وعند الكلام في هذا الموضوع تتغير نبرة أهالي الوادي. فبالنسبة إلى هؤلاء، الوظيفة في الدولة مطلوبة وكذلك الإنماء، لكنها ليست مسألة حياة أو موت. أما تنكة المازوت وقارورة الغاز وبعض المواد الغذائية التي توارثوا إيصالها من البلدات السورية على الضفة الأخرى من النهر إلى بعض البلدات اللبنانية فتلك قضية أخرى.
يقارن أهل الوادي بين تفهّم الدولة السورية لأهمية هذه التنكة والقارورة التي تدخل لبنان وكيلوغرامات السكر التي تدخل سوريا، بالنسبة إلى أهالي المناطق الحدودية السوريين، وتساهلها بالتالي مع هذا النوع من التهريب مقابل تشدّد الدولة اللبنانية وعرضها عضلاتها على التجار الصغار الذين يبحثون عمّا يوفّر لهم الحصول على رغيف يومهم، تمهيداً لشتم السلطات اللبنانية ساعة فرحوا بالجنسيّة اللبنانيّة.