غسّان سعودخلال العقد الأول من السيطرة السورية على الحياة السياسية في لبنان، تمايز حزب الطاشناق عن معظم الأحزاب المسيحيّة بعدم الاضطرار إلى الاستزلام لضابط سوري، وعدم تعرضه في المقابل لتضييق ما. لكن، عشية انتخابات الألفين، بدأت مرحلة جديدة بالنسبة إلى الحزب الأرمني الأعرق، فذاق للمرة الأولى رفض الاعتراف بحقه في اختيار النواب الأرمن نتيجة تمتعه بأكبر نسبة تمثيل وسط الطائفة الأرمنية. وبعد الكف على الخد الأيمن أدار الحزب خده الأيسر لصفعة حريرية ثانية تمثلت بإقصائه وزارياً أيضاً. ولاحقاً، ورث الحريري الابن عن والده الثقة بمستشاره للشؤون الأرمنية آرا سيسيريان ـــــ الطاشناقي السابق الذي يُقال إن خلافاته الشخصية مع الطاشناق هي سبب طلاق الحريري والحزب الأرمني. فأقصي الطاشناق مرة أخرى عن التمثيل النيابي في بيروت (4 مقاعد نيابية أرمنية)، وعن المشاركة الوزارية في حكومة السنيورة أيضاً. وازداد، نتيجة ذلك، التصاقاً بالعماد ميشال عون الذي رفض المشاركة بحكومة لا يشارك الطاشناق فيها، تماماً كما رفض الموافقة في الدوحة على تقسيمات انتخابيّة لا تأخذ مصلحة الطاشناق في بيروت بعين الاعتبار.
لكن، نتيجة اتفاق الدوحة، وانتقال النائب ميشال المر ـــــ حليف الطاشناق التاريخي، كما يسمي نفسه، من الرابية إلى قريطم، بدأ يزداد الكلام عن احتمال تحسّن العلاقات بين الحريري والطاشناق المؤثر مباشرة بثلاث دوائر انتخابيّة، هي: المتن الشمالي (نحو 41 ألف ناخب أرمني)، بيروت الأولى (نحو 19 ألف ناخب)، وزحلة (قرابة 10 آلاف ناخب)، إضافة إلى الوجود المؤثر في كسروان (نحو 2000 ناخب أرمني)، بعبدا (قرابة 1700 ناخب)، وجبيل (قرابة 1100 ناخب)، وخصوصاً أن حصول هذا الأمر (تغيير الطاشناق تحالفاته) سيحسم فوزه والأكثرية بمقاعد المتن الثمانية، والمقاعد الخمسة في بيروت الأولى، والمقاعد السبعة في زحلة. وبالتالي، حفاظ الأكثرية على أكثريتها النيابية، وفوزها بأكثرية الثلثين ربما.
في هذا السياق، ثمة وجهتا نظر داخل الطاشناق، يفترض أن يتم التوفيق بينهما بهدوء.
فمن جهة، هناك من يرفض إغلاق الباب الأرمني بوجه تيار المستقبل وتفويت الفرصة السهلة للحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية. وهؤلاء يبدون بعض التذمر مما يصفونه بعدم إعارة عون الاهتمام الكافي بالحزب. والبعض يقول إن ثمّة قيادات عالمية للطاشناق تتأثر بموقف الحزب المحلي. غير أن أصحاب هذه النظرية لم يوفّقوا في طموحاتهم كثيراً بعدما اقتصر عرض الحريري على الأمين العام للحزب هوفيك مخيتاريان في لقائهما الأخير على إعطاء الطاشناق مقعداً واحداً في بيروت، مقابل تخلي الحزب الأرمني عن تحالفه مع عون في الدوائر كلها.
من جهة أخرى، ثمة من يقول إن مقاربة علاقة الحريري والطاشناق تقتضي المرور بأربعة مشاهد:
المشهد الأول، في منطقة برج حمود قبل نحو 3 أسابيع، حين وقع إشكال بين مناصرين لحزب الطاشناق ومرافقين لناريك ابراهيميان ـــــ المنشقّ عن الطاشناق ومؤسّس حركة الأرمن الأحرار المدعومة من تيار المستقبل. السبب الحقيقي للمشكل يومها، هو تنامي الاحتجاج الأهلي من إصرار «الأرمن الأحرار» على توزيع المال السياسي في برج حمود بهدف زعزعة شعبية الطاشناق في معقله الأساسي. وتجدر الإشارة إلى أن ابراهيميان دعا بسرعة إلى اعتصام تضامني في الدورة. لكن لم يتعدّ عدد المتجاوبين معه خمسة وأربعين شخصاً، رغم إغداقه المال والجهد والعمل طوال سنتين.
المشهد الثاني، مسرحه حزب الرامغافار (الحزب الأرمني الثاني بعد الطاشناق من حيث الحجم)، إذ يتفق المحازبون على رفض التجديد للنائب هاغوب قصارجيان في بيروت. لكن الحريري يصر على ترشيحه ويرفض استقبال الرامغافاريين المستائين من قصارجيان، علماً بأن المعارضة تتعدّى الرامغافار لتصل إلى حلفاء الحريري وأوّلهم النائب ميشال فرعون الذي يسعى لأن يرشح مسؤول مكتبه سيبوه ميخيتجيان بدلاً من قصارجيان.
المشهد الثالث، رواية يتناقلها الأرمن، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، عن خلاف وقع في ملعب الجامعة الأميركية في بيروت بين فريقين لكرة القدم من جامعة هايكازيان والجامعة العربية على خلفية قول بعض لاعبي «العربي» للاعبي هايكازيان (الأقرب إلى الرامغافار منه إلى الطاشناق) إن عليهم التحدث في ما بينهم بالعربية أو سيعيدونهم إلى أرمينيا في «البابور» نفسه الذي أتى بهم إلى لبنان.
المشهد الرابع، تدور أحداثه في مكتب النائب ميشال المر في عمارة شلهوب، حيث يكرر الكلام أمام رؤساء بلديات ومخاتير عن خلافات تعصف في قيادة الطاشناق، ووجود خطين أحدهما يؤيد الحريري وآخر يريد عون.
تفصيلاً، يشرح أحد مسؤولي الطاشناق أن المشاهد الأربعة السابقة تفسر عمق الخلاف الطاشناقي ـــــ الحريري: يصرّ الحريري على فرض ممثلين للأرمن لا يعبرون عن تطلعاتهم، حتى على مستوى الأحزاب الحليفة للمستقبل. وفي هذا السياق يسيء الحريري فهم الثقافة الأرمنية أو «الخصوصيّة». وقد بدأ الحريري اللعب بالنار، وفق مصدر في الطاشناق دائماً. فبعدما باءت محاولات رجلي المستقبل في برج حمود ناريك ابراهيميان وفتشيه نوربتليان الملقّب بـ«بومبا» بزعزعة هيمنة الطاشناق بالفشل، بدأت «الحرتقة» على مستوى القيادة عبر سلسلة أكاذيب يبدو واضحاً في أروقة الحزب أن آثارها عكسية بالنسبة للمستقبل. إذ إن انقسام الحزب يشكّل مصيبة بالنسبة إلى غالبية المحازبين، وبالتالي من يسهل وسط القيادة حصول أمر كهذا لن يجد من يردّ عليه السلام باللغة الأرمنية لا في برج حمود ولا في خارجها.
تالياً، إن الحزب الذي لم يلقَ من قريطم عامي 2000 و2005 إلا محاولات الإذلال سيعرف كيف يعيد الاعتبار لجمهوره، الذي، لم يعد يحتمل التمييز العنصري اللاحق به مرّة من الحريري وأخرى من الكتائب ومرات من المر.
ثمّة من تحمّل التهجير، ثم شقى واجتهد ليخرج من «الغيتو» إلى كل بلدات المتن وأحياء بيروت من دون استثناء، وثمّة من عرف كيف يزاوج بين انتماءين، رافضاً التشكيك في كل مناسبة بوطنيّته، وثمّة طبعاً من يعتقد أنه قيمة بحد ذاته ويحقّ له اختيار مرشحيه دون تهديد من أحد، مرة بقانون انتخاب، وأخرى بمال سياسي، وثالثة بسيناريوهات وهمية لانقلابات حزبيّة.