يلفّ (أبو رضا) سائق التاكسي شوارع بيروت يومياً. قبلَ ساعات من موعد الانتخابات، يُغلقُ نوافذ سيارته، كلّما مرّت سيارة تصدح بأغان حزبية، وما إن تتوارى، حتى يعيد فتحها. بعد 9 سنوات من عدم ممارسته حقّه الديمقراطي، تغيب عنه الحماسة. لا يجِد فرقاً بين خيارين يضع نفسه في مواجهتهما: أن يُدلي بصوتِه أو يقاطع الانتخابات. «أصلاً شو رح تفرق» يردّد، وعندما أساله أين ستنتخب؟ «كمان ما بتفرق» يُجيب. في مزاج «أبو رضا» شيء من العدمية واللامبالاة. مزاج مُغاير لمناخات ناس العاصمة. كثيرون يتصرفون كجيّاع للانتخاب، بعدما فُرض عليهم الصيام عنه فترة طويلة. ساعات بينهم وبين موعد إفطارهم الانتخابي. هل سيحتَفون بصوتهم الذي أصبح قادراً على التغيير، أم أن «نبوءة» أبو رضا ستكون صادقة… «ما بتفرق»!؟
هذه المرّة، لا يصح القول إن النتيجة محسومة. يحكي أهل بيروت لغة سياسية جديدة. صارت المشاركة هنا «واجبة».. كثيرون يتصرفون كأنهم يصوّتون للمرّة الأولى. تجتاحهم سُحب من الصور والشعارات واللافتات. «مش قادرين نشوف بعضنا البعض». بهذه الكلمات الساخرة يعلّق شاب يتوسط مجموعة من مجايليه تجمهروا عند باب مكتب انتخابي في الطريق الجديدة. اللافتات غزت كل شبر. تحوّلت بيروت إلى معرض مرشحّين ومرشحات. تكاد مشهدية الانتخاب تحجب الشمس وتقطع الهواء وتحول الليل نهاراً. صحيح أن الأمل بتغيُر ما ليس كبيراً، لكنّ شيئاً ما يتحرك. لن تعود بيروت لطرف. ولا لزعيم. ولا لجهة. سيتقاسمها هذا وذاك. انتهى موسم وليّ الدم ووليّ المال. الجميع ستكون له حصّة في انتخابات 2018.
من يُعطِ أذنيه للجالسين في بعض الأحياء في بيروت، يلتقِط الكثير من الإشارات والدلالات. تَحمِلُ ــ على بساطتها وعفويتها ــ إدراكاً وفطنة بما يدور في الكواليس. خبرة أهل الشارع في السياسة تفوق خبرة أهل السياسة. لكنها خبرة لا تبلغ حدّ التفوّق على عاطفة الفرح بفوز فلان والفرح بسقوط علّان. خطّ الفقر الذي يحفر بين الناس والطبقة السياسية يختفي لحظة الانتخابات. يقفز الفقراء فوقه، ليلتصقوا بالزعامات. الولاء لها فوق كل اعتبار، ولو أنها سبب فقرهم و«تعتيرهم».
«المرشحون يملأون رؤوس الناخبين بالوعود ثمّ يغادرون». بهذه العبارة يُحاول أحد الجالسين في أحد مقاهي النرجيلة في منطقة عائشة بكار إقناع نفسه بإدارة ظهره للجميع. يقول وهو يشير إلى آخرين حوّلوا المقهى إلى مكتب انتخابي «هم ليسوا مقتنعين بأن الانتخابات لن تأتي بطبقة سياسية ملتزمة بقضاياهم». الأصحّ أن شاباً ثانياً يوافقه الرأي «لكن المعركة في بيروت سياسية بين محورين وليست معركة غني وفقير». هكذا يُؤتى بالناس الى الانتخابات. بالخطاب والتحريض السياسي. الحرب بين محور الشر ومحور الخير. بين السلاح الشرعي والسلاح غير الشرعي. «في النهاية، ما حدا بيموت من الجوع»، يتدخل ثالث على خطّ النقاش لحسمه: «الرزقة على الله»، وماذا عن نجاح النواب أو رسوبهم؟ لا جواب.
خبرة أهل الشارع بالسياسة تكاد تفوق خبرة أهل السياسة أنفسهم


سنوات تسع ليس من مصادرة حق الناس في الانتخاب، بل في ازدياد أرقام الفقر والبطالة واللاهثين وراء لجوء في هذه السفارة أو تلك، والنتيجة أن بعض الشباب لا يريدون مغادرة «المتاريس» التي وضعهم فيها زعماؤهم ممن لا يقيمون وزناً إلا لمصالحهم. ممن غادروا المتاريس وأنتجوا تسويات وثبّتوا مواقعهم في السلطة، أما ناسهم، فلا بد أن يستمروا وقوداً لاحتمالاتهم. على رصيف شارع عفيف الطيبي، اعتاد عدد من الشبان الجلوس بصحبة النرجيلة. كانوا يصِلون هناك ليلهم بنهارهم. المشهد اليوم لم يتغيّر كثيراً، بل أصبح لهؤلاء خيمة تظلّلهم من أشعة الشمس الحارقة نهاراً، ومراقبة الجيران لأحاديثهم المرتفعة مساءً. الفضل، كل الفضل، للمواسم الانتخابية. هؤلاء لن يتركوا «التيار». مثلهم كثر، على باقي أرصفة المنطقة ذات الكثافة السكانية الأعلى في العاصمة. يقول محمد صندقلي «كتار حاولوا يبعدونا عن التيار، شي بالمصاري، وشي بالوظايف، وشي بالكذب. صح في شباب عايزة، بس الأكيد إنو الكل بـ6 أيّار حيصوتو للخرزة». على جانبٍ آخر، من الرصيف، شاب لا يجد تفسيراً لما يردّده رفاقه إلا من زاوية «الخطاب الإعلامي»، فكلما حضرت مؤسسة إعلامية تسأل الناس في الشارع رأيها، يستنفر شباب المنطقة مدافعين عن خيارات ليسوا مقتنعين بها، وعندما يجلسون وحدهم، تندفع الشكاوى والأسئلة وتتبدّى الحاجة إلى خدمات وتقديمات أكبر للمنطقة: «صرلنا شهر منشوفهم.. بتخلص الانتخابات وبيفلوا. أصلاً صرلهم غايبين 9 سنين» يردّد الشاب نفسه.
لا تختلف الأولويات والشكاوى في أحياء أخرى، لكن من لون طائفي أو مذهبي آخر في العاصمة. في زقاق البلاط، يتبدّى موج من الرايات. ساحة من ساحات القتال الإقليمي حول قضية المقاومة حطّت هناك. جزء من السكان غادر الى مناطق الجنوب أو البقاع. وجزء بقي في المنطقة، يستعد ليوم الأحد. لا تختلِف اللهجة على لسان مناصري المقاومة. السياسة خيرٌ من الإنماء. «ما جدوى المال لو فقد هذا الشعب نقطة قوته»، يقول أحد الناخبين «قوتنا بمقاومتنا». يستفزّه التجييش الطائفي والمذهبي ضد فريقه السياسي «إلى حدّ وصفنا بالأوباش… الأوباش هم من ينزلون إلى الشارع ويعتدون على الناس… رأيناهم أمس ماذا فعلوا». يتحدّث عن حماسة غير مسبوقة ليوم الاقتراع، «هي المرّة الأولى التي سنكسر فيها احتكار تيار واحد لنيابة بيروت». على جانب الطريق، يستعدّ أحد السكان لمغادرة العاصمة إلى مسقط رأسه. «رايح انتخب المقاومة». يوصي جاره (مفتاح انتخابي في المنطقة) بحثّ الجمهور على المشاركة «لازم نكون كتار ببيروت، ونجيب أصوات كتيرة».