هل لا تزال البلاد بحاجة إلى إقرار موازنة عام 2019، بعدما انقضى من السنة الحالية 5 أشهر؟ يفرض الدستور على مجلس الوزراء أن يحيل مشروع الموازنة على مجلس النواب عند بدء عقد تشرين الأول من كل عام، وأن تُقرّ الموازنة في مجلس النواب قبل نهاية السنة. أي إن موازنة 2019 كان ينبغي أن تحال على المجلس النيابي في تشرين الأول 2018، وأن تُقرّ قبل اليوم الأول من العام الجاري. كل الأرقام التي يجري تداولها عن العجز وتخفيضه ونسبته من الناتج المحلي باتت، نظرياً، أرقاماً بلا أي طائل. في الأصل، لم يشرح أحد بعد للرأي العام الجدوى من هذه الأرقام. لماذا تحتاج الحكومة إلى خفض العجز حتى يصبح معادلاً لنحو 7.5 في المئة من الناتج المحلي؟ لماذا يطالب البعض بأن يصل العجز إلى 7 في المئة لا أكثر؟ لماذا 7 في المئة، لا 6.9؟ أحجية لا أحد يعلم جدواها الاقتصادية. هي مجرّد أرقام حدد بعضها رعاة مؤتمر «سيدر»، فصار الوزراء يتسابقون على «تنقيصها»! يُضاف إلى ذلك أن ما يُبحَث حالياً، ويحتاج لنحو شهر لإقراره في مجلس النواب، هو مشروع موازنة لنصف سنة، وربما أقل. الدستور والقانون يوجبان صدور قانون الموازنة قبل انقضاء العام. ولأجل ذلك، يصبح السؤال مشروعاً عن جدوى كل هذا الصراخ والتأجيل وتضييع الوقت، فيما المطلوب من الحكومة أن تكون في طور الإعداد لبدء دراسة موازنة عام 2020 بعد أربعة أشهر على أبعد تقدير، إذا قررت احترام الدستور، ولو لمرة واحدة. الأمر بحاجة ربما إلى موقف شجاع من الحكومة ورئيسها، سعد الحريري، لا بهدف الهروب من الأزمة الحالية، بل لمحاولة وضع رؤية اقتصادية جدية للموازنة، لا الاكتفاء بإجراءات محاسبية لا هدف لها سوى إرضاء رعاة «سيدر». يمكن مجلسَ الوزراء إقرار موازنة كيفما اتفق، والذهاب إلى نقاش جدي في النموذج الاقتصادي المعتمد منذ 27 عاماً، وإعادة النظر بالسياسات الضريبية وبعلاقة الدولة بمصرف لبنان والمصارف، والبحث في ضرورة زيادة الإنفاق الاستثماري وإعادة تأهيل البنية التحتية المنهارة، ودراسة واقع القطاع العام والأسلاك العسكرية والأمنية... البلاد بحاجة إلى ورشة تشريعية حقيقية، لا إلى مشروع موازنة حُمِّل بالعشرات من المواد القانونية التي لا صلة لها بالموازنة. وهذه الورشة لا يمكن إنجازها تحت سيف الوقت المُهدَر أصلاً، وفيما مسدّس «سيدر» موجّه إلى الرؤوس.لا مواعيد دستورية احتُرِمَت، ولا رؤية اقتصادية طرحها أحد من مكونات مجلس الوزراء. كل ما يجري حالياً تضييع للوقت والجهد، من أجل موازنة لأقل من ستة أشهر!
السؤال عن جدوى النقاش واجب لأسباب أخرى، تتصل بالنقاش نفسه. فمن تأجيل إلى آخر تنتقل الموازنة. هذه المرة يمتد التأجيل 48 ساعة. مهلة أعطاها رئيس الحكومة للوزراء كي يدرسوا اقتراحات جديدة قدمت أمس، وكي ينظر وزير المالية بانعكاساتها المالية. الوزير علي حسن خليل سبق أن عزل نفسه عن جزء من النقاشات، انطلاقاً من قناعته بأن «الموازنة قد أنجزت». وبالرغم من تعميم الأجواء الهادئة، إلا أن الخلاف بين خليل والوزير جبران باسيل استمر على حاله. وفيما كان وزير الخارجية يصرّ على أن يستكمل النقاش في الورقة التي قدمها، والتي وصف بنودها بالإصلاحية والتي «تساهم في خفض العجز بسهولة إلى 7 في المئة» من الناتج المحلي، كان وزير المالية يشير إلى تخطي الأصول في صياغة الموازنة، داعياً إلى إقرارها، ثم معالجة كل الأمور في جلسات لاحقة، فكان الحل بتأجيل الجلسة.
في هذا الوقت، بدأت تتحول اجتماعات الحكومة إلى مناقصة مفتوحة لكل من يبدع اقتراحاً إضافياً لزيادة الإيرادات وبالتالي خفض العجز، الذي أعلن وزير الإعلام أمس أنه وصل إلى 7.5%. إلى أي مدى هذه التقديرات دقيقة؟ تجربة العام الماضي تجعل التشكيك أمراً مشروعاً، خاصة أن العجز الفعلي ارتفع إلى 11.5 في المئة بعدما كانت التقديرات تشير إلى 8.5 في المئة. التشكيك بالتقديرات يصدر عن وزير معنيّ أيضاً، متسائلاً: من أين حصلوا على هذا الرقم؟ قبل أن يشير إلى توقعاته بأن الإجراءات التي نفذت حتى اليوم، إنما تساهم في وصول نسبة العجز إلى 8.5 في المئة. مع ذلك، فإن هذا الرقم قد لا يكون دقيقاً أيضاً، خاصة أنه لم يُعرَف مقدار ما تؤمنه زيادة الثلاثة في المئة على الفوائد، في ما يتعلق بتطبيقها على المصارف.
خصوم باسيل في مجلس الوزراء يتهمونه بالرغبة في إمساك قرار الحكومة


ومع تأجيل الجلسة إلى الجمعة، مع افتراض أن تكون الأخيرة، أعاد الرئيس نبيه بري الإشارة إلى تأخر الموازنة وإلى ضرورة إقرارها وتحويلها إلى المجلس النيابي، وقال إنه أعطى توجيهاته لدرسها بوتيرة سريعة في لجنة المال لإنجازها خلال شهر.
بالرغم من اعتبار مهلة 48 ساعة هي المهلة الأخيرة لدراسة الموازنة قبل تحويلها إلى المجلس النيابي، فقد خرجت محطة «أو تي في»، تحت عنوان «بتخلص بس تخلص»، الذي سبق أن ردده الوزير جبران باسيل، لتشير إلى أن «الموعد المقبل الجمعة، وإن لم يكن الجمعة، فالاثنين أو الثلاثاء وربما أكثر، لأن عامل الوقت لن يكون ضاغطاً هذه المرة، تماماً كأيّ عاملٍ مفتعل آخر، كالشعبوية والمزايدة أو التلويح بالوقوع في المحظور...». وتأتي هذه المقدمة لتؤكد إصرار باسيل على مناقشة كل ما ورد في التقرير الذي قدمه، علماً أنه سيكون له كلمة اليوم، يتناول فيها ملف الموازنة، بعد اجتماع استثنائي يعقده تكتل «لبنان القوي». ولمّحت مصادر في التكتل، في اتصال مع «الأخبار»، إلى إمكان إعلان باسيل رفضه إقرار الموازنة بصيغتها الحالية، وضرورة إعادة النظر بها، مهما كان الوقت الذي ستحتاج إليه. ويرفض باسيل التلويح بسيف الوقت، معتبراً أن إقرار موازنة تتضمّن رؤية اقتصادية يستحق تأجيل بتّ الموازنة أياماً قليلة. في المقابل، يقول «معارِضو» باسيل في مجلس الوزراء إنه «يحتجز الموازنة لأهداف لا صلة لها بالرؤية الاقتصادية، بل لأهداف تتصل برغبته في الظهور بمظهر الممسك بقرار الحكومة». في المقابل، لوّح الرئيس سعد الحريري، مع نهاية جلسة أمس، بإمكان اللجوء إلى التصويت على الموازنة، إذا استمر الخلاف بين خليل وباسيل. ويمسك الأخير بورقة الثلث المعطِّل، لأن الموازنة تُقَرّ بالثلثين. خلاصة ما تقدّم أن مشروع الموازنة بات على كفّ عفريت!