ليس المهم في لقاء معراب أمس، شقه السياسي. ولا الأهم فيه، طرحه الرئاسي. فخلف الرجلين اللذين اجترحا معجزة 18 كانون الثاني 2016، ما هو أكبر من اللحظة والمنصب والحسابات. خلفهما تاريخ من السؤال حول كيفية أن نبقى في هذا الوطن، وأن نبقى فيه أحراراً.
صحيح أنها المرة الثالثة التي تحشر رئاسة الجمهورية بين ميشال عون وسمير جعجع. في المرة الأولى، بين العامين 1988 و1990، تنازلا حول كرسيها، ولو من دون إعلان ولا ترشيح. لكن الجميع كان يدرك أنها هي، مع ما كانت تحمله وتعنيه يومها من خيارات ومشاريع ورؤى وطروحات، هي جوهر الأزمة التي انطلقت بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، ووصول البلاد إلى شغورها الرئاسي الفعلي الأول. وظل النزال سيد العلاقة بين الرجلين، حتى تشققت من حولهما، ومن ثم من تحتهما، كل الأرض. سقطت موسكو، فتغيّر العالم. ثم سقطت بغداد، ولو من دون أن تسقط، فتغيّر المحيط. فكان حتمياً أن تسقط "شرقيتهما"، حتى سقطا معها. بعد سقوطهما، قام نظام لا يعرفانه، ولا يعترف بهما. رماهما بين المنفى والأسر. ورمى جماعتهما بين التصحير والتهميش. ورمى الوطن في خانة الوصاية والهيمنة، تخفيفاً لغوياً لفظياً لما هو أكثر وأثقل. حتى سقط كل البلد، بسقوط من حسب أنه منتفع، ومن توهم أنه المستفيد... ولم تكن التجربة كافية لنتعلم جميعاً.
في المرة الثانية، كان الرجلان قد عادا إلى الوطن. فأعادا نصاب المسيحيين إلى سياسته، ولو جزئياً أو نسبياً. وكان الاستحقاق الرئاسي مجدداً على موعد مع عودتهما. فعادت الرئاسة لتحشرهما في نزال سدتها من جديد. قبل أن يلتقي عون بنصرالله، وقبل أن يلتقي جعجع بالحريري، افترقا رئاسياً، أو هي فرّقتهما. حتى صارا على طرفي نقيض منها. وحتى عادت الحرب باردة بينهما، مع بعض سخونة متناسبة مع إمكانات المرحلة وسياق المواجهة. ولم تكفّ التجربة الثانية مرة أخرى.
وفي المرتين، كانت الخلاصات ثابتة. أولها أن نذهب من المأزق السياسي، إلى الحرب العسكرية. إما مباشرة كما في العام 1990. وإما بحرب الشركاء في الوطن، كما في العام 2008. وفي المرتين، كانت التركيبات الخارجية هي الجاهزة للاستثمار. وقد نكتشف يوماً مع كتب التأريخ الغربية، أنها كانت أصلاً، خلف الافتعال والاصطناع والتركيب والتوليف. سنة 1990، اكتشفنا أن طبخة الطائف كانت جاهزة. لا في شقها الداخلي الميثاقي الذي أجمع على فلسفته الجميع. بل في شق شطب لبنان كدولة عن لائحة الكيانات السيدة، وتحويله كونتوار صرف تعويضات، لمؤتمر سلام مدريد الموهوم. وهو ما تجسد في كونسورسيوم الثلاثي واشنطن ــــ الرياض ــــ دمشق. الأولى تربح مشروعها الاسرائيلي، والثانية تربح محاصصتها البيروتية، والثالثة تربح شيئاً من حلم تاريخي...
سنة 2008، اكتشفنا أيضاً أن طبخة الدوحة كانت جاهزة. نسجوها بكل تفاصيلها، من مدرج مطار بيروت، إلى طائرة حمد بن جاسم، وما بينهما من تسويات. وكان الثلاثي الشرق أوسطي جاهزاً أيضاً. السعودي ربح تجديد محاصصته. والقطري كرس دوره الجديد في انتظار "رباع الجزيرة"، أو جمع ربيعها. ليربح التركي بداية تجسيده لحلم عمقه الاستراتيجي شرقاً...
وفي المرتين، كانت ثمة خلاصة ثابتة أخرى، أن تذهب الرئاسة إلى أبعد الناس عن عون وجعجع. سنة 1988، بدأت حربهما معاً ضد "الاحتلال السوري". لتنتهي باحتلال سوري للرئاسة من دونهما. وسنة 2008، بدأت حربهما الباردة معاً، تحت عنوان ذلك الغلاف الشهير، أن ميشال سليمان هو مرشح سوريا لرئاسة لبنان. لتنتهي بسليمان نفسه رئيساً، لعهد انتهى بجعجع خارج الحكومة، وبعون على وشك الخروج من سباق الرئاسة...
لكن الأهم في خلاصات تلك التجارب، أن ثمة أناساً قد غابوا في تلك الحروب. وأن ثمة دماً هرق، وأثماناً دفعت، وخسائر وقعت وكوارث ترتبت، وأن شعباً كاملاً كاد يفقد مقومات وجوده، بدءاً بثقة البقاء وإرادة الحياة... بمعزل عن مؤدى معجزة الأمس، وأياً كانت خواتيمها، ومهما بلغت إليه في حسابات الرئاسة واستحقاق مستحقها، يظل لها أجر كبير وفضل عظيم، أنها أقفلت أبواب المدافن العتيقة. أنها طوت صفحات من الأحقاد والآلام والمعاناة. أنها استخرجت حدادا الذين غابوا، وجعلته ذخيرة لانتصار مشترك لكل اللبنانيين. وأنها رسمت للسياسة والشأن العام بين أي شخصين أو سياسيين أو حزبين أو جهتين، خطوطاً حمراء، أولها قبول الآخر، والاعتراف به كما هو، واعتماد الحوار وحده سبيلاً للعلاقة معه، ورفع الأيدي وكأس الانتصار معاً للناس والوطن، حتى ولو كانت رؤانا مختلفة.
يبقى السؤال: هل تتوج خطوة الأمس باستحقاق مار مارون؟ إنها مسؤولية كل شركاء الوطن. من سعد الحريري الشريك الرابح في مصالحة الأمس. إلى وليد جنبلاط حافظ أمانة سلام الجبل، التي حملها له ميشال عون في آخر زيارة. إلى فارس الشمال سليمان فرنجيه ووريث الشهداء سامي الجميل... آن أوان اللقاء. وشعبنا الهازج أمس واثق أنكم لن تفوتوه، ولن تضيعوا لحظة التاريخ. تبقى بضع كلمات وفاء: لأمثال سعيد يمين وسليم معيكي، جثواً لدمائكما. ولأبنائنا وأخوتنا عذراً أننا تأخرنا. ولابراهيم وملحم، شكراً. ولسمير جعجع كل المبروك، ولميشال عون كل الحب ودمعة شعب، لتجلو غبار قصره.