عودة الى حرب العام 2006. لم تكن مشكلة العدو، يومها، محصورة في نقص الحكمة والنضج لدى القيادة السياسية. أصل المشكلة يكمن في ان التقدير الذي عملت على اساسه القيادات الامنية والعسكرية، كان ينقصه الكثير من العناصر الضرورية لناحية الجهد الاستخباري من جهة، وتقييم واقع العدو من جهة ثانية. عملياً، تتحمل الجهات المهنية في كيان العدو (جيش وأمن) مسؤولية القرار السياسي بشن الحرب!
اليوم، نحن امام واقع مشابه على مستوى القرار في تل أبيب. لا تبدو القيادة السياسية متفوقة كثيراً بالنضج والحكمة عن حكومة ايهود اولمرت، وان كان بنيامين نتنياهو صاحب خبرة أكبر. لكن الصراعات السياسية داخل الكيان، تعيدنا الى المربع الاول، حيث القرار الحقيقي يرتبط بالجهات المهنية اياها، والتي يجب التدقيق في كيفية تعاملها مع المشاهد المعقّدة من حولها.
صحيح ان ما حصل في سوريا او في الضاحية يعكس نجاحاً استخباراتياً معيناً لدى العدو. او لنقل إنه يعطي اشارة واضحة على مستوى الجهد الاستخباراتي التي يقوم به العدو في الجبهة الشمالية منذ عام 2006. لكن الكلام عن النجاح في تحقيق الهدف من العملين، يبقى رهن التطورات، حيث التحديات الكبيرة، وحيث يضطر اهل القرار في تل ابيب الى العمل في ظل مناخ شديد التوتر.
يقرأ العدو جيداً ما يحصل في المنطقة ويدرك الربط القوي للملفات بعضها ببعض، وهذا ما جعله يبحث عن وسائل جديدة لمعالجة وضعية «الخيارات الضيقة» التي يجد نفسه فيها الآن. والناتجة عن:
- فشل الرهان على انتهاء دور سوريا في دعم قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وعلى سقوط النظام في دمشق.
- قيام قوة شعبية وسياسية ورسمية عراقية تنتمي مباشرة الى محور المقاومة وعدم قدرة الولايات المتحدة على خلق مناخ داخل العراق كالذي ساد في السنوات التي سبقت انطلاق ما سُمّي «الربيع العربي».
- بروز عجز اميركي وأوروبي عن الدخول في مواجهة مباشرة وواسعة مع ايران، والسعي الى احتواء التوتر لا العكس.
- المسار الذي اخذته حرب اليمن نحو هزيمة مدوّية للتحالف الاميركي - السعودي - الاماراتي - الاسرائيلي في مواجهة حلفاء ايران.
- عودة الحرارة القوية الى جسم قوى المقاومة الفلسطينية، وتعزز العلاقات بين حركة حماس على وجه التحديد ومحور المقاومة، واتساع قدرات وهوامش المناورة امام التنظيم الجهادي القوي، اي حركة الجهاد الاسلامي.
- فشل مساعي الحصار المالي والاقتصادي في إضعاف قدرات حزب الله او محاصرة دوره سواء داخل لبنان او على مستوى الاقليم، بل تعزيز قدراته الخاصة بملف فلسطين.
هذه الوضعية، تدفع اسرائيل نحو الجدار. لا يقتصر الامر على ضيق الخيارات، بل يرتفع أيضاً منسوب التوتر، وبالتالي تزيد الاخطاء والتي قد يكون ما حصل في سوريا ولبنان ليل السبت - الاحد احد تعبيراتها. هدف العدو هنا، قد يكون دفع الفريق السياسي «الحاكم» في لبنان الى القيام بعمل يضمن «ضبطا» لحركة المقاومة. لكن الامر يحتاج الى ضربة على الطاولة، من اجل اعلان الخروج من قواعد اللعبة القائمة. وهذا يعني بالضبط: قرار اسرائيلي بمحاولة تعديل ميزان الردع على الجبهة الشمالية.
عملياً، ما حصل هو ان ضربة دمشق، التي اصابت مجموعة تعمل ضمن القوة الجوية للمقاومة، وتدمير بعض مواردها، لا يمكن لها ان تقضي على مشروع كبير يتصل بامتلاك محور المقاومة وجميع قواه منظومات الدفاع والقتال الجوي. وهذا المشروع تراقبه اسرائيل، ليس من خلال برامج التجسس البشري او التقني في ايران ولبنان وسوريا وفلسطين وحسب، بل ايضاً من خلال التقدم الهائل الذي حققه «انصار الله» في اليمن، حيث النجاح الكبير في مواجهة السعودية المستفيدة من برامج دعم عسكرية ولوجستية كبيرة من اميركا كما من اسرائيل نفسها. واسرائيل التي تجيد التمييز بين هذا الفريق او ذاك، تعرف ان ما يقوم به اليمنيون، في ظل ظروف الحرب والحصار والضغط، قد لا يمثل إلا القليل امام ما يمكن لقوة مثل حزب الله ان تقوم به على هذا الصعيد. وها هي اسرائيل على وشك اختبار منظومة الدفاع الجوي للمقاومة في لبنان بعد تصريحات السيد حسن نصرالله أمس، والتي أنهت سنوات طويلة من «الغموض البناء» الذي كان معتمدا حيال القوة الجوية والدفاع الجوي.
اما عملية الضاحية، فتفاصيل كثيرة عنها ستظل طي الكتمان. لكن العدو ليس مستعدا لفهم «الصدفة الالهية» التي افشلت العملية، كما ان المقاومة تعلمت من الدرس ما هو مهم لمواجهة هذا النوع من الاعمال الامنية - العسكرية، بالاضافة الى انه درس استخباراتي للاثنين معا. لكن الحصيلة سهلت للمقاومة الخروج من دائرة الغموض الى العلن حيال قوة الدفاع الجوي. كما ان الرد الاكيد على عمليتي دمشق والضاحية سيخلق واقعا جديدا على الجبهة الشمالية للعدو، وخصوصا من جانب لبنان. حيث قررت المقاومة، صراحة، ان تختار الاهداف من دون الوقوف عند خاطر قرارات دولية او اراض محتلة او ما شابه. وهنا يكمن خطأ العدو الكبير، في انه منح المقاومة مشروعية كبيرة لردود عقابية وردعية كانت صعبة التحقق لولا هجمات ليل السبت - الاحد.
ضربة دمشق لن تقضي على مشروع كبير يتعلق بامتلاك محور المقاومة وكل قواه منظومات الدفاع والقتال الجوي
لذلك، دخلنا اليوم في مرحلة اختبار منظومة الردع عند الطرفين. اسرائيل تحاول القول إن «الضربات الوقائية» غير ممكنة من دون المسّ بقواعد اللعبة، وهو ما حصل في دمشق ثم في الضاحية، والمقاومة سترد، بضربات عقابية تعيد العدو الى صوابه حيال مسألة الردع. وهذا سببه:
- ان العدو كان يعلم ان الغارة على مركز المقاومة في دمشق ستؤدي الى سقوط شهداء في صفوف المقيمين هناك. وهو فعل ذلك عن وعي، ليس بالضرورة لاجل ايقاع الخسائر البشرية، بل لكون تحقيق المهمة لن يكون ممكنا من دون وجود هذه المخاطر.
- ان رد الحزب، القائم على «مبدأ التماثل» المعتمد منذ ضربة القنيطرة، يفرض توجيه ضربات مؤلمة الى العدو، وبينها ما يجعل العدو الان يختار من بين جنوده من هو الاكثر استعداد للموت قبالة الحدود مع لبنان. وبالتالي، فان العدو يقف اليوم امام خيارات اكثر ضيقا، فاما يقبل برد مؤلم ويصمت، وعندها يفقد كل قيمة ما قام به ليلة السبت – الاحد، ويخسر اوراقا اضافية، واما سيكون امام عملية «تكبير راس» ويعمد الى الدخول في مرحلة «ضربات الترجيح» المفتوحة، والتي تعني في احد اوجهها إمكان تدحرج الامر نحو حرب واسعة.
في جانب اخر، كان واضحا من كلام السيد نصرالله، اننا اقتربنا من انتهاء مرحلة الصمت على الضربات الاسرائيلية في دول وساحات محور المقاومة. وهو امر «تشعر» به اسرائيل. وهي اصلا تعتقد - وتقول - بأن الغارة على موقع الحزب جنوب دمشق، كان هدفها منع هجمات بطائرات انتحارية ضد اسرائيل. وهو ما يعني لها، انه شكل من اشكال الرد على ما تقوم به بالتعاون مع اميركا في العراق او سوريا او على الحدود بين البلدين. ولذلك، كان اصرار العدو على القول ان هدف الغارة هو «قوة القدس ومعها ميليشيات شيعية، وبقيادة قاسم سليماني». وهي، هنا، تحاول، ولو بطريقة سخيفة، عدم تحميل حزب الله المسؤولية عما يقوم به المجاهدون الذين استُهدفوا في الغارة. لكن السؤال الذي يُطرح: لو كان العدو رفض تسمية حزب الله في بيانه حول غارة الشام، فلماذا اقدم على فعلته في الضاحية، وهو يعرف انها مركز القيادة في المقاومة، حتى ولو كان سيخرج ليقول ان الهدف كان ايرانيا ايضا؟
كل ما علينا فعله الآن هو انتظار نتائج تطورات الايام القليلة المقبلة. وانتظار نتائج المرحلة الجديدة من المواجهة. الكل متوتر، لكن العدو سيكون امام توتر غير مسبوق، والشاطر هناك يعمل على قياس الضغط عند الجمهور كما عند اصحاب القرار!