اعتاد لبنان، في كل مفاصل أزماته السياسية، أن تتدخل فرنسا في مشاورات وجولات حوار تحت عنوان الحفاظ على وحدة لبنان واستقراره. مع التحرك الشعبي الذي يجري منذ شهر وقوته وحجمه، يظهر الموقف الفرنسي الرسمي خجولاً الى حدّ لم يعتده لبنان سابقاً. كان واضحاً لمتصلين بدوائر فرنسية رسمية أن باريس تتريّث في إعطاء مواقف واضحة ممّا يحصل من تحرك شعبي، وهي التي تشهد في ظل رئاسة إيمانويل ماكرون نماذج مماثلة منذ شهور. ورغم أن احتجاجات لبنان الواسعة تختلف بطبيعتها عن تحرك السترات الصفر، وأن الموقف التقليدي الفرنسي يقف الى جانب حرية المتظاهرين والتعبير عن الرأي، إلا أن ماكرون حرص في شكل واضح على إبعاد نفسه عن مقاربة التظاهرات، رغم أنها تحولت حدثاً إعلامياً وسياسياً تخطى الحدود اللبنانية، ولم يصدر عنه أي تعليق مباشر. ولم يتخطّ موقف الحكومة الفرنسية أو وزارة الخارجية الشعار التقليدي بالحفاظ على الاستقرار والأمن في لبنان.مع المنحى الذي اتخذته الأحداث باستقالة الرئيس سعد الحريري وجمود المشاورات حول تأليف حكومة جديدة، وبعد جولة الموفد الفرنسي، مدير دائرة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية، كريستوف فارنو، بدأت الرئاسة الفرنسية تتعاطى بشكل مختلف، ولكن ليس على إيقاع التظاهرات بل على إيقاع تأليف الحكومة. وفق ذلك، بدأت تتكشف معطيات جديدة بحسب معلومات متأتية من دوائر فرنسية واسعة الاطلاع.
رغم كل التظاهرات التي تشهدها عدة مدن فرنسية والتي يقوم بها لبنانيون دعماً للتحركات الشعبية في لبنان، وعدم استثناء الحريري من لائحة المشاركين في الفساد واهتراء المؤسسات والوزارات، ورغم أن ما يقوله المتظاهرون علناً عبر حركاتهم وشعاراتهم لا يصبّ في خانة عودته الى الحكومة، ولو كانت بعنوان تكنوقراط، فإن فرنسا قرّرت القفز فوق هذه الاعتبارات بوضوح، وانحازت بالكامل الى عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، وتسوّق للفكرة من خلال لقاءات ديبلوماسية مع لندن وواشنطن لتعويم الحريري وعدم التخلي عنه. وقد سبق للموفد الفرنسي أن تحدث من بيروت عن لقائه مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط دايفيد شينكر في باريس، للبحث في الوضع اللبناني. ورغم كل ما شاهده الموفد الفرنسي وسمعه وكان ملفتاً وواضحاً لجهة توسع الاحتجاجات والعنصر الشعبي الضاغط بأن الحريري جزء من الطبقة السياسية الحاكمة المتهمة بالفساد، بدأ ماكرون يضغط دولياً ومحلياً لإعادة تكليف الحريري برئاسة الحكومة، وهو الذي سبق أن تدخل أكثر من مرة الى جانبه منذ استقالته من السعودية وصولاً الى لقائهما الأخير في أيلول الفائت. والمعطى الاساسي بالنسبة الى ماكرون يتعدى فكرة ارتباط الحريري كاسم وكشخصية سياسية لها حضور دولي وجاذب للاستثمارات باستمرارية مؤتمر «سيدر» خدمة لإنقاذ الوضع الاقتصادي المهترئ في لبنان، علماً بأن الفرنسيين حاولوا تعميم أن «سيدر» قائم مهما كان اسم رئيس الحكومة، إذ إن فرنسا لا تؤيد إحياء دور الحريري فقط، بل أيضاً شركائه في التسوية وفي العمل الحكومي، انطلاقاً من مصلحة شركات فرنسية محددة سبق أن أنهت مع الحريري ومسؤولين آخرين معروفين اتفاقات معدة سلفاً لمصلحة تشغيل هذه الشركات وإعطائها عقوداً وأعمالاً في لبنان.
تنحاز باريس بالكامل لعودة الحريري الى رئاسة الحكومة وتسوّق للفكرة مع لندن وواشنطن

وهذه الاتفاقات باتت منجزة في شكل شبه كامل. وهي تشكل في الأيام الأخيرة، من خلال تفاصيل كثيرة ومعلومات مفصلة، عنصراً أساسياً في الكلام الفرنسي عن ضرورة تسريع الخطوات الآيلة الى إعادة الاستقرار الى لبنان من خلال تشكيل الحكومة سريعاً أو على الاقل تكليف الحريري في المرحلة الاولى. والهدف تحريك عجلة المشاريع الموعودة بها مؤسسات وشركات لها حضورها واسمها في عالم الاعمال والاقتصاد والمال. وبما أن تمويل «سيدر» متعدّد المصادر وليس فرنسياً، وبما أن دولاً مانحة عبّرت عن قلقها ممّا يحصل في لبنان وعلى مصير الاموال المعدّة للمشاريع، فإن همَّ ماكرون في هذه المرحلة هو إحياء ملف الاتفاقات شبه المنجزة، بما يصبّ في مصلحة هذه الشركات التي تضغط أكثر فأكثر للدخول سريعاً في قطاعات حيوية في لبنان والإفادة من الاموال المرصودة. وتتحدث المعلومات عن أن الأفضلية القصوى ليست لأي رئيس حكومة، بل لعدم الانطلاق من الصفر مجدداً مع حكومة أو فريق عمل جديد يريد إعادة البحث والنقاش في ما سبق إعداده وترتيبه، ما ينعكس مزيداً من التأخير في انطلاق عملي لـ«سيدر». وهذا لا يصبّ في مصلحة أحد، وهو الأمر الذي تحوّل عنواناً أساسياً في مفكرة الرئيس الفرنسي حالياً للضغط أكثر لتسمية الحريري. فبين مصالح المتظاهرين في لبنان ومطالبهم التي يفترض بفرنسا صاحبة الشعارات التاريخية أن تقف الى جانبها، تنحاز باريس حكماً الى مصالح شركاتها واستثماراتها مع كل المنافع المالية الاقتصادية الأساسية والجانبية بتنسيق مع شركائها العمليين في بيروت، لا أكثر ولا أقل، من دون أي رؤية سياسية أو احترام لما ينادي به المتظاهرون في الشارع.