تراجع التيار من الواجهة وزارياً لا بد أن يترافق مع تمتين لقاعدة إدارية صلبة
كرس الرئيس الراحل رفيق الحريري، كما الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط، هذا الأداء في الإتيان بطبقة موظفين موالين في كل القطاعات. وقد ورثها الرئيس سعد الحريري، بعد عام 2005 وعززها أيضاً بتعيينات إدارية صبّت في المنحى نفسه. يمثل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمدير العام لشركة طيران الشرق الأوسط محمد الحوت نموذجين صارخين عن هذا الاستثمار الطويل الأمد في التوظيف الذي تعتمده القوى السياسية، التي تخرج من الحكم وتعود إليه، لكنها في الوقت نفسه تبقى لها اليد الطولى في الإدارة. هكذا كانت حال الحريري الابن حين خرج مرتين من السرايا الحكومية، لكنه بقي صاحب نفوذ في المؤسسات الرسمية، وفي المحافظات في مجالس وهيئات اقتصادية وكثير من المواقع الوزارية والإدارية والأمنية والقضائية، بفعل تقاسم ما أنجز من تعيينات قبل انفراط عقد التفاهم بينه وبين العهد.
هو النموذج نفسه الذي اقتدى به التيار الوطني الحر قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وبعده، وعمل به قبل استقالة الحريري حين كانا ينجزان معاً مروحة واسعة من التعيينات الإدارية، ويعمل به الآن إبان التأليف الحكومي. فمنذ أن بدأ خطاب التيار يتركز حول نقطة واحدة هي إعادة التوازن للتمثيل المسيحي في الإدارة، حصّن نفسه بطبقة من المديرين العامين ومن الجهاز الإداري في مؤسسات ومواقع رسمية إدارية وأمنية، وبموظفين من فئات ثانية وثالثة، تيمّناً بما قامت به سابقاً القوى السياسية الأخرى. واستفاد بعد انتخاب عون، من تحصين هذه الحصص، وتعزيز دورها. يشكل نموذج ما قام به رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد أيوب بالخلفية السياسية الموالية لبري تجاه الدكتور عصام خليفة، وتلويح المدير العام لمؤسسة مياه بيروت جان جبران بضرورة دفع اشتراكات المياه حتى يستمر تأمين المياه للمشتركين، في ظل أزمة اقتصادية خانقة (معطوفة على تقنين كهربائي حاد وأزمات غاز ومازوت)، نموذجين متشابهين من الحضور الحزبي في الإدارة والسلطة، والمؤثر تأثيراً مباشراً، بغضّ النظر عن الحصص الحكومية. والتيار في صورة متقدمة، كونه الأحدث حضوراً في الإدارة، كان يراهن على أن تتوسع هذه القاعدة مع التعيينات الإدارية، لتشكل ركيزة مهمة في التعامل مع المستقبل السياسي للتيار. وهو رغم خسارته السياسية بفعل ما تعرّض له والعهد بعد 17 تشرين الأول 2019، نقل رهانه في صورة أوسع في مناقشة التمثيل الوزاري، بعدما خرج ممثلو الصف الأول من الحكومة. فبدا طرح المرشحين للاستيزار من خلال مروحة أسماء تصب في خانة الولاء كمعيار وحيد اعتمد في التعيينات الإدارية وفي اختيار أكثرية نواب التيار. فابتلاع التراجع من الواجهة وزارياً، لا بد أن يترافق مع تمتين لقاعدة إدارية صلبة، إذ يفترض بالحكومة الجديدة أن تجري تعيينات إدارية، واختيار فريق وزاري أكثر صلابة يحافظ من خلاله على حضوره السياسي. وهذا يقي التيار شر الانقلابات عليه مع أي تطورات سياسية داخلية، قد لا تصب في مصلحة بقائه في الصف الأول.