لا تخلو وصفة صندوق النقد الدولي للبنان من تخفيض حجم القطاع العام، كشرط من شروط التعافي. هذا القطاع الذي جرى حشوه في السنوات الأخيرة بتوظيفات «سياسية ــــ انتخابية» شاركت فيها كل القوى السياسية من دون استثناء، سيكون في خطر، وأكثر المستهدفين اليوم هم الفئة التي جرى توظيفها بشكل مُخالف للقانون الرقم 46 (سلسلة الرتب والرواتب) الصادر في آب 2017، والتي تنصّ المادة 21 منه على «منع جميع حالات التوظيف والتعاقد، بما فيها القطاع التعليمي والعسكري بمختلف مستوياته واختصاصاته، إلا بقرار من مجلس الوزراء بناءً على تحقيق تجريه إدارة الأبحاث والتوجيه». وإن كانت هذه القوى هي من تتحمّل مسؤولية المُخالفة كونها أدخلت عدداً كبيراً إلى الإدارات مِن دون دراسة الحاجات أو موافقة مجلس الوزراء، فمِن الظلم أن يُعاقَب هؤلاء بتسريحهم إلى البيوت وتحويلهم إلى عاطلين عن العمل في زمن الجوع، وخاصة أن لـ«الإصلاح» أبواباً كثيرة يُمكن أن تبدأ بها الدولة قبلَ أن تصِل يدها إلى العمّال والفقراء، وتحوّلهم ضحايا للنظام الزبائني. فماذا سيكون مصيرهم؟ فهل ستغطيهم الحكومة التي عليها هي أن تتخذ القرار؟كانَ عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائِب حسن فضل الله من أوائل الذين أثاروا موضوع «الانفلات العشوائي الحاصل في التوظيف في القطاع العام خلافاً للقوانين» أواخِر عام 2018. يومَها، مِن مجلس النواب، سأل «كم موظفاً دخلوا الى القطاع العام منذ إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وأين هو تنفيذ المادة المذكورة؟ وهل كلّف مجلس الوزراء الجهات المعنية القيام بهذه المهمة. وهل أجرت إدارة الأبحاث والتوجيه تحقيقاتها لمعرفة الحاجات، وبناءً عليها قرر مجلس الوزراء التوظيفات التي تجرى»؟ منذُ ذلِك الحين، فُتح البازار السياسي في هذا الملف وجرى تبادُل الاتهامات بينَ التيارات والأحزاب، حتى خرجَ رئيس الحكومة السابِق سعد الحريري في إحدى جلسات مجلِس النواب (نيسان 2019) وحسم تورّط الجميع به، قائلاً «لم يبق أحد إلا وتدخل وطلب من هيئة أوجيرو التوظيف».
كانَ الملف قد أصبحَ بعهدة لجنة المال والموازنة التي طلبت من الهيئات الرقابية (مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي وديوان المُحاسبة)، إفادتَها بالمعلومات المتوفّرة لديها، وإجراء التحقيقات اللازمة، وعقدت لهذه الغاية إحدى عشرة جلسة استمعت فيها إلى تقارير هذه الهيئات. تبيّن من هذه التحقيقات أن العدد الذي جرى توظيفه بعدَ 21 آب 2017، من غير الأجهزة العسكرية والأمنية، يبلُغ 5473 شخصاً، منهم 460 فقط جرى توظيفهم وفقاً للأصول بتسميات وظيفية قانونية. أما الباقي (5013)، فجرى استخدامهم خلافاً للأصول بتسمياتٍ مُختلفة: شراء خدمات، مُياوم، متعاقدٍ على مهمة، علماً بأن العدد الذي جرى توظيفه وفقَ هذه التصنيفات قبل عام 2017 يبلغ 32009 أشخاص، بحسب تقرير اللجنة، التي يؤكّد رئيسها النائب ابراهيم كنعان «أنهم وصلوا اليوم إلى ما كنا نحذر منه». كنعان أشار إلى أن «اللجنة عملها رقابي، وهي مسؤولة حصراً عن القيام بهذا الدور من خلال مسار بدأته منذ عام 2010 على صعيد المالية العامة للدولة، وتابعته ثمانية أشهر على صعيد التوظيف المخالف للقانون على أكمل وجه، وهذا التقرير يلخص عملها». لذا حولناه إلى ديوان المحاسبة، حيث إنه «تبعاً لأحكام المادّة 86 من قانون إنشائه، يبلَّغ الديوان نصوص تعيين الموظفين أو المستخدمين لدى الإدارات والمؤسسات والهيئاتِ الخاضعة لرقابته، وعليه هو أن يتحرّك ويتخذ الإجراءات».
فضل الله: لا يُمكن البدء بالإصلاح عبر التضحية بالفقراء


وعليه، يقول المدعي العام لدى الديوان القاضي فوزي خميس إنه «إذا تبيّن للغرفة المختصة أن التعيين جاء خلافاً للقانون، تتخذ قراراً بعدم صرف النفقة، وتقوم الغرفة الخاصة بناءً على طلب المدعي العام بالتحقيق والمحاكمة ويبلغ القرار الى صاحب العلاقة». النيابة العامة لدى الديوان طلبت في شهر تشرين الأول عام 2018، من جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات الخاضعة لرقابتها وجوب إبلاغها بجميع القرارات المتعلقة بالتوظيف. ومنذ شهر نيسان 2019 بدأ الديوان باتخاذ قرارات الادعاء، نفذ منها 9 فقط بحق موظفين في وزارة التنمية الإدارية، و56 في المديرية العامة للتعليم المهني والتقني، وذلك من أصل 3397 قراراً غالبيتها في وزارة التربية (485 متعاقداً و2345 مستعاناً به) وهيئة «أوجيرو» (453). خميس لفت إلى أن «دور الديوان قضائي، هو يعمَل على تطبيق القانون وتحديد التوظيفات المخالفة للقانون ودور الديوان ينتهي هنا. فإما الادعاء على المدير العام في المؤسسة أو إبلاغ مجلس النواب بمخالفة الوزير»، والطلب من الإدارات «فسخ العقود مع الموظفين أو توقيف النفقة»، مشيراً إلى أن «الديوان تريّث في أمر التوظيفات في القطاع الصحي بعدَ أزمة كورونا، نظراً إلى حاجة المستشفيات إلى موظفين». فهل سيسري ذلك على قطاع التعليم، في ظل الحديث عن نزوح طلابي من المدارس والجامعات الخاصة إلى المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية بسبب الأزمة الاقتصادية، ما دامت الحاجة تتقدّم على القانون؟ يؤكّد خميس لـ«الأخبار» أن «الديوان يطبق القانون، أما السياسة الاجتماعية فهي من مسؤولية الحكومة، فإذا قرّرت هي أن تغطيهم، فلتفعل». وهنا تبرز أيضاً إشكالية عدد الأفراد الذين جرى إدخالهم إلى المؤسسات العسكرية والأمنية (أكثر من 5000 عنصر) والتي يقول خميس إن«ذلك لا يخضَع لرقابة الديوان»، مُضيفاً نحن «تواصلنا مع وزارتي الداخلية والدفاع بقدر صلاحيتنا، وأكدتا أن لا توظيف جرى في الإدارة لديهما بعدَ صدور القانون».
أما فضل الله فيعتبر أن الحل يبدأ «بتحديد الوظائف الوهمية لموظفين مسجلين في المؤسسات ويقبضون رواتبهم من دون مداومة»، ومن ثمّ «حل موضوع المتعاقدين والمستشارين في الوزارات التابعين لـ«UNDP»، والتي تساهم الدولة في دفع رواتبهم البالغة 14 ملياراً، وتدفع بالدولار». والأهم من ذلك «تفعيل مجلس الخدمة المدنية، فتعطيله سمح للوزراء والإدارات بفتح باب التوظيف العشوائي». إذ «لا يُمكن البدء بالإصلاح عبر التضحية بالفقراء، بينما هناك قطاعات أخرى لم نقترب منها».