ليل الثلاثاء في الخامس عشر من تشرين الأول من العام الماضي، اشتعلت البلاد بالحرائق، حتى وصل عددها إلى مئة وثلاثة حرائق، بحسب تقرير الدفاع المدني. في تلك الليلة أيضاً، توفي المتطوع في الدفاع المدني سليم أبو مجاهد اختناقاً في بلدة بتاتر، حيث تُرك هؤلاء لقدرهم، بلا معدات. كان موت سليم الشرارة التي أشعلت غضب الناس، بعدما شهدوا الفضيحة المدوية، إذ كانت الأحراج تحترق فيما طائرات الإطفاء «سيكورسكي» متوقفة منذ ثلاث سنوات لعدم تأمين قطع الغيار لها. لم يكد يومان يمضيان على تلك الأحداث، حين اشتعلت شرارة جديدة من وسط العاصمة في 17 تشرين الأول عقب الاقتراح الشهير لمحمد شقير، وزير الاتصالات آنذاك، بفرض ضريبة على اتصالات تطبيق «الواتساب». كانت تلك الشرارة الثانية التي خرج معها الناس إلى الشوارع. دعوة «عفوية» بدأ الناس يتناقلونها عبر «الواتساب» و«events» على موقع فايسبوك كانت كفيلة بحدوث تلك الاحتجاجات التي استمرّت شهوراً. في الذكرى الأولى، لا تزال القصص تروى عما حدث في تلك الليلة. قصص الناس الذين أخرجوا غضبهم دفعة واحدة وما زالوا يحتفظون بتفاصيلها، لكونها شكلت بالنسبة إلى الكثيرين منهم محطة مفصلية في حياتهم. البعض منهم دوّنها في دفتر مذكراته، فيما البعض الآخر يتّكل على طراوة ذاكرته ليعيد سرد أحداث تلك الليلة.أين كان هؤلاء في ليلة السابع عشر؟ إليكم بعض القصص

جاد السليم
(ناشط سياسي)

كنت في اجتماع عمل، حينما بدأت الدعوات إلى التظاهر تنتشر على موقع «فايسبوك». في تلك اللحظة، شعرت بأن عليّ أن أكون هناك. في المكان الذي حددته الدعوات الفيسبوكية المجهولة المصدر. لم يستمر هذا الشعور أكثر من بضع دقائق، كنت بعدها على جسر الرينغ وسط مجموعة من الناس لا أعرف أحداً منهم. كنا قرابة خمسين شخصاً فقط لا يحملون سوى حناجرهم. بدأنا بإطلاق الهتافات، أذكر منها هتافين «22 و100 كلهن قرطة حراميي» و«14 و8 عملوا البلدة دكانة». من جسر الرينغ، سرنا باتجاه منطقة الصيفي، ثم عبرنا باتجاه جريدة النهار ومنها إلى باب إدريس، حيث وقع الإشكال الشهير مع مرافق الوزير أكرم شهيب. في تلك اللحظة، لم أعد أعرف من أين تأتي كل تلك الجموع من الناس. ولم نكد نعبر منطقة الحمرا، حتى صار الخمسون متظاهراً ألف متظاهر. مكثنا بعض الوقت في الحمرا، ثم عدنا على الدرب نفسه. الصنائع. سبيرز. رياض الصلح. وهناك، بتنا ليلة الثورة الأولى التي شهدت أولى المواجهات مع القوى الأمنية.

إلهام مبارك
(جمعية تجمّع المرأة اللبنانية)

كنت في منطقة الدامور قبل يومين من الثورة. بقيت هناك لمساعدة المتضررين من الحرائق التي اندلعت في أحراج المنطقة. يوم 17، عدت إلى المنزل، وعند السابعة مساء، كنت أشاهد التلفزيون، عندما انتقلت غالبية المحطات التلفزيونية إلى النقل المباشر من ساحة رياض الصلح وجسر الرينغ. وفي الوقت نفسه، كنت أتلقى الرسائل على الواتساب عما يجري في الساحات وعلى الطرقات. بعد ذلك، لم أستطع البقاء في المنزل، اتصلت بصديقتي واتفقنا على النزول إلى الشارع. نزلت أنا وهي وابنها. كان المشهد مؤثراً، لم نستطع العبور نحو ساحة رياض الصلح لكثرة الناس. بقينا هناك حتى ساعات الفجر الأولى ثم غادرنا في اليوم التالي.

أيمن ضاهر
(مهندس في أنظمة التحكّم)

كنت في المنزل في منطقة الرميلة، حينما وصلت إلى هاتفي دعوات للتظاهر عند السادسة مساءً في بيروت. ولكن، لم أستطع النزول، بسبب انشغالي بعملي. حوالى الثامنة والنصف، وجدت بأن الأمور قد بدأت تتطور وأن ما يحدث ثورة، عندما حزمت أمري وقررت النزول إلى بيروت مع «الرفاق». طوال الرحلة، كنا نتلقى «الإحداثيات» على الهاتف عن وضع الطرقات. عبرنا بصعوبة منطقة برجا ومنها إلى بيروت حيث علقنا في زحمة نفق سليم سلام قبل أن ندلف إلى ساحة رياض الصلح حيث بقينا حتى الواحدة فجراً. وهناك عرفنا من الأخبار التي كانت تصلنا أن بيروت ليست وحدها وأن المناطق كلها بدأت انتفاضتها، عندها عدنا إلى الجنوب.

رولان نصور
(مخطّط عمراني وناشط)

في تلك اللحظة، كنا في ساحة رياض الصلح نعمل على التحضير لتظاهرة التاسع عشر بعد الحرائق التي اشتعلت في عدد من المناطق. فجأة، بدأت الدعوات للنزول إلى الشارع، عندها قررنا أن ننضم إلى التظاهرة وأن لا ننتظر حتى تاريخ التاسع عشر. تركنا كل شيء مكانه، ثم التحقنا بالتظاهرة عند جسر الرينغ، حيث كان أول الصدامات مع القوى الأمنية التي كانت سبباً في نزول الناس بكثرة إلى الشارع.
ومنذ ذلك الحين، انطلقت شرارة الانتفاضة.

علي خليفة
(أستاذ جامعي)

عندما رجعت بتاريخ الصور المحفوظة في هاتفي، وجدت أقربها الى تاريخ السابع عشر من تشرين هو تاريخ التاسع عشر. أي بعد يومين على انطلاق الاحتجاجات. في تلك الصور، كنت أشارك في التجمعات عند دوار إيليا في صيدا. ربما، كنت قبل ذلك في بيروت، ولكني أذكر بأنني لم أكن أتوقع يومها أن هذا الشعب سيثور ليسقط هذه المنظومة الحاكمة، بالرغم من كل ما كنا نحرص عليه ونزرعه في التربية على المواطنية وإصلاحات الدولة المدنية.

حسين المسكي
(ناشط في الحراك الشعبي)

كنت في المنزل أشاهد التلفزيون عندما بدأ البث المباشر من ساحة رياض الصلح. لم أكترث في بداية الأمر لما يجري، فلطالما ارتبطت فكرة التظاهر في الفترة الأخيرة لديّ بالفشل. بقيت أقلّب بالمحطات، من دون حماسة، إلى أن رأيت صديقي واقفاً فوق سيارة الوزير أكرم شهيب ومن ثم انتشر فيديو مرافق شهيب. فجأة، تغير كل شيء، ونزل الناس بكثافة إلى الشارع «وكبرت القصة متل كرة التلج». في حينها، شعرت بشيء لم أستطع توصيفه، مرّ بعدها الوقت بطيئاً. بقيت أقلّب بالقنوات، حتى وجدت نفسي في الصباح التالي في الشارع.

رانيا زغير
(كاتبة قصص أطفال)

أذكر أنه في ذلك التاريخ، كنت أبحث عن طريق مفتوح للخروج من مدينة بيروت إلى بيتي في الجبل. كنت أحاول الهروب بطفليَّ مما قد يحدث. كانت سرعة إقفال الطرقات تفوق سرعة الخوف الذي كان قد بدأ يدبّ فينا. حملت طفليَّ وبدأت البحث. 3 ساعات قضيناها في تلك الرحلة، فلا نحن قادرون على العودة إلى منزلنا ولا حتى قادرون على الخروج من بيروت. مع ذلك، استطعنا العبور في النهاية ووصلنا إلى بلدة بكفيا. كنا نحتاج إلى دقيقتين قبل الوصول إلى قريتنا، ولكن كان ثمة حاجز. قال لي أحد الواقفين هناك: «بليز مدام ارجعي»، فقلت له بأني لا أعرف طريقاً آخر. عندها، ركب إلى جانبي في السيارة وأوصلني. وفي الطريق إلى البيت، قال لي بأنه موظف في مصرف ويحمل شهادة عليا، ولكنه لا يملك اليوم سوى خيار الوقوف في الشارع.

محمود خليل
(مساعد قضائي)

كنت مع أصدقائي في أحد المقاهي في منطقة عين الرمانة، عندما وصلت الرسالة. فجأة، وجدنا أنفسنا في «الفان رقم 4» المتجه نحو ساحة رياض الصلح. كنا مجموعة من الأصدقاء من خلفيات متنوّعة، ولكننا لم نأخذ ذلك في الاعتبار. نزلنا إلى الساحة لأننا كنا غاضبين على ما كان يحدث في حينها، فقبل يومين فقط، كانت البلاد تشتعل. وصلنا إلى ساحة رياض الصلح بصعوبة بالغة بسبب الازدحام. جلسنا على الرصيف المقابل لـ«فلافل صهيون»، وعند التاسعة بدأوا بحرق الأخشاب وبدأت القوى الأمنية هجماتها بالقنابل المسيّلة للدموع. لم نبق لفترة طويلة هناك، ولكن بعد ذلك اليوم، صار النزول إلى الشارع طقساً يومياً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا