خلال الحرب الاهلية، حين مدت الاحزاب اليمينية يدها لاسرائيل طالبة التعاون العسكري معها، وقفت البطريركية المارونية ضد هذه العلاقات. وذلك على الرغم من وجود عدد من الرهبانيات المارونية في تلك الاراضي، وأبرشية مارونية كان على رأسها المطران بولس صياح فترة 16 عاما، مستخدما معبر الناقورة ليعبر ذهابا وايابا. كانت هذه الزيارات تحصل بعلم الدولة اللبنانية وبإذن منها . ولكن لم يسبق أن وطأت قدما رأس كنيسة لبنانية تلك الاراضي، حتى لا تُحسب عليه اعترافاً بذاك الكيان، أو نوعاً من التطبيع معه.
انطلاقا من هنا، لا يمكن أن تمر زيارة البطريرك بشارة الراعي الى القدس في أيار المقبل مرور الكرام، خصوصا أن أي بطريرك لبناني لم يكرّس هذه السابقة. فلماذا يصرّ الراعي على تجرع هذه الكأس المرة، بعكس ما فعل سلفه؟
يروي الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في مذكراته التي نقلها عنه الصحافي أنطوان سعد أنه لم يقبل أن يرافق البابا يوحنا بولس الثاني في رحلته الى الاراضي المقدسة بسبب «وجود وضع داخلي نراعيه. من الناحية الدينية، لدينا مطارنة يتنقلون بين لبنان وفلسطين، ولكن مراعاة للوضع الداخلي فضلنا عدم القيام بها». يزيد سعد لـ«الأخبار» أنه «لا توجد عداوة بالمعنى العقائدي، ولكن صفير كان دائما ضد السياسة الاسرائيلية ان كان في ما خص القضية الفلسطينية أو ممارساتها في لبنان». يضيف سعد أن «موقف البطريركية المارونية كان دائما واضحا بعدائها لإسرائيل، واعتبارها أن هذا الكيان لعب أدوارا سببت لنا العديد من الكوارث». انطلاقا من هنا «طرح صفير، خلال الحرب الاهلية، العديد من علامات الاستفهام على علاقة بعض القوى اللبنانية مع اسرائيل ما استدعى خلافات وتوترا في العلاقة بينه وبين هذه القوى»، وخاصة مع القوات اللبنانية. لا مجال للمقارنة بين الكاردينالين بحسب سعد، فلكل منهما اعتباراته، «ويجب أن لا ننسى أن القوات الاسرائيلية لم تكن قد انسحبت بعد حين رفض صفير المشاركة مع الوفد الفاتيكاني». من هنا، «لا أعتبر الزيارة تطبيعا للعلاقات. هناك أبعاد تتخطى السياسة والنزاعات، وهي تمسك الراعي بالاراضي المقدسة».
لا يعتبر النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم أن اسرائيل في حاجة الى زيارة من هذا النوع لتستغلها سياسيا، «فالعرب يقدمون لها أكثر بكثير». يؤكد في حديث لـ«الأخبار» أن الذهاب الى القدس «لا يعني الاعتراف باسرائيل، فموقف البطريركية المارونية معروف. ولكن هناك واجبات تجاه البابا وزيارته أولا وتجاه أبناء الرعية في فلسطين ثانيا». وعلى الرغم من أن البابا فرنسيس ليس أول حبر أعظم يزور القدس، يعتبر مظلوم الزيارة «مناسبة تاريخية تفرض على الراعي أن يكون موجودا». ويدعو الى عدم إعطاء الموضوع أكبر من حجمه، «لا علاقة للموضوع بالتطبيع، فالبطريرك ليس سلطة سياسية، هو يزور رعاياه لا أكثر». ستبقى اسرائيل في نظر بكركي «دولة مغتصبة، محتلة، حرمت شعبا من وطنه واعتدت على لبنان». أما بالنسبة لرفض صفير هذه الزيارة «فلانه لديه وضع مختلف، والظروف اليوم بنظر الراعي مغايرة».
أوساط الراعي:
الزيارة تعبير عن التمسك بالاراضي المقدسة

من جهته، أحد المطارنة «غير المرتاحين» لهذه الزيارة يحاول فهم الدوافع التي جعلت الراعي يقبل هذا «المشوار». يبرر بأنه للبطريركية مطراناً في فلسطين المحتلة، «وبقي لبنانيا رغم تنقله بين لبنان والاراضي المقدسة». الراعي يزور الرعايا «وليس الدولة، على غرار زياراته لباقي البلدان وخاصة سوريا».
عرض الراعي الامر خلال اجتماع مجلس المطارنة الموارنة. أبلغهم أن البابا سيزور المنطقة، «لذلك سأستغل هذا الامر لزيارة رعايا الكنسية». لم يعارضه أحد علنا، مع العلم أن بعضهم لم يكن مرتاحا لهذه الخطوة. ما زال برنامج الزيارة غير واضح، ولكن «الاكيد أنه لن تكون هناك لقاءات مع أي شخصية سياسية، كون الزيارة ليست لدولة».
قد تكون سوريا بالنسبة للبعض دولة مستفزة أساءت خلال وصايتها للبنان، ولكن يكفيها أن مواد قانون العقوبات التي تعاقب كل شخص يدخل «بلاد العدو»، لا تنطبق على سوريا. وما المقارنة بين محطتيّ الراعي الا «حجة» لتبرير زيارة غير ضرورية. كان بامكان الراعي عدم المشاركة في الوفد الفاتيكاني، خاصة بوجود مطران يهتم بأمور الرعية. من يدري، ربما لم يقصد الراعي إثارة هذا الجدل. السؤال هنا ليس تخويناً ولا اتهاماً بالعمالة بالتأكيد. ولكن لا يستطيع الراعي، ولا المطارنة الذين يصفون إسرائيل بـ«الدولة المغتصبة»، التذرع بعلاقات بعض حكام العرب بإسرائيل. زيارة الكاردينال محصورة بالرعايا الموارنة، ولكن هل يثق بأن اسرائيل لن «تورطه» بأن تجعله يصافح أحد مسؤوليها أمام عدسات الكاميرات؟