كما اعتبر صمت المعنيين حيال هذا الكلام، لا اعترافاً بالارتكابات المقترفة، بل من نوع التعالي عن السجال!
لكن المسألة مؤكدة ومثبتة بالوقائع والوثائق. ففي جلسة «حكومة المصلحة الوطنية» ـــ كذا قيل اسمها ـــ في 16 نيسان الماضي، أحيل على الوزراء بند يقضي بالتغطية اللاحقة على ما يلي، كما ورد حرفياً: «الموافقة على منح إذن لطائرة عسكرية إيطالية، تنقل مفتشين تابعين لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية وحمولة ساخنة (Hot Cargo) بالعبور في الأجواء اللبنانية والهبوط في مطار رفيق الحريري الدولي». ثم في بند آخر «الموافقة على منح إذن لطائرة إماراتية تنقل حمولة عادية من لبنان، وجلب حمولة خطرة من بيروت إلى أبو ظبي، بالعبور في الأجواء اللبنانية والهبوط في مطار رفيق الحريري الدولي»، فضلاً عن طائرة ثالثة «تابعة للدولة النمساوية، لتقديم الدعم اللوجستي في مجال تدمير الأسلحة الكيماوية في سوريا».
طبعاً لا تفاصيل إضافية حول الطائرات الثلاث، لكن المعروف أنها جاءت إلى لبنان من دون أي معاملات رسمية أو موافقات خاصة أو إجراءات قانونية. غطتها إدارة سهيل بوجي غب الطلب، واليوم مطلوب من «حكومة المصلحة الوطنية» منحها براءة ذمة لاحقة مطلقة. علماً أن الهمس والشائعات حول القضية كثير خطير. يكفي السؤال مثلاً، عن «الحمولة الساخنة» التي جاءت بها الطائرة الإيطالية، إلى أين ذهبت؟ فإذا كانت الرحلة تحمل مفتشين تابعين لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، فهذا يعني أنها جزء من عمل المنظمة في سوريا. وبالتالي فركابها آتون إلى دمشق عبر بيروت. ينزلون عندنا ثم ينتقلون براً إلى الأراضي السورية. لكن في هذه الحال، ماذا عن «حمولتهم الساخنة»؟ ما هي؟ إلى أين انتقلت؟ هل ذهبت معهم إلى سوريا؟ مريب كل الخبر، في بلد اعتاد كل الأخبار الغريبة والمريبة. في المقابل، الطائرة الإماراتية أكثر تصريحاً وتوضيحاً. جاءت إلينا من أجل «جلب حمولة خطرة من بيروت إلى أبو ظبي»، لكن من أين وصلت «الحمولة الخطرة» إلى بيروت؟ وما هو سبب خطورتها؟ الفذلكة هنا في صياغة بند التسوية تشي وحدها بالريبة: «نقل حمولة عادية من لبنان»، ثم «جلب حمولة خطرة من بيروت إلى أبو ظبي». ما الفرق بين «النقل» و«الجلب»؟ وما الفرق بين «النقل من لبنان»، و«الجلب من بيروت»؟ خلف المسألة أسرار كثيرة، يقول العارفون. أسرار لن يجيب عنها أحد، لا تتعب نفسك، يؤكدون. إنها مقتضيات «المصلحة الوطنية»، وخصوصاً هذه الأيام.
علماً أن المقصود في الأساس ليس الكيماوي. إثارة المسألة جاءت في سياق عرض مخالفات حاكم السرايا الفعلي. أكثر من 470 مخالفة «استثنائية» دبجها سهيل بوجي في فترة رئاسته المباشرة للحكومة المستقيلة، قبل أن يستأنف عمله رئيساً مستتراً بعد التشكيل. لماذا الكلام الآن؟ لأننا مقبلون على الأرجح على شغور رئاسي. ولأن الأمر يذكر بشغور ما بين عامي 2007 و2008. يومها كانت حكومة السنيورة هي الحاكمة بأمرها. وكان ارتكابها مماثلاً عظيماً. عشرون جلسة غير ميثاقية وغير دستورية عقدتها مجموعة السنيورة في تلك الفترة. ما كانت حصيلتها؟ 2269 قراراً فقط. أي بمعدل 113 قراراً في الجلسة الواحدة. كلها كان يجب أن تلغى. ماذا حصل بعد مسخرة الدوحة؟ لا شيء. سكت الجميع. بين تلك القرارات، على سبيل المثال لا غير، 116 قراراً قاضياً بتمليك أجانب أراضي لبنانية خلافاً للقانون. بعض تلك القرارات منح 50 الف متر مربع في كل منها لأشخاص غير مستحقين قانوناً. بعدها سأل مرة جبران باسيل عن مصير تلك الارتكابات، فاستهجن السنيورة مستنكراً: هل يعقل أن نسترد عقاراً من خليجي تطبيقاً لقانون لبناني؟!
هكذا تجري الأمور عندنا إذن. ترتكب كل المخالفات بالجملة. ثم تأتي التسوية فتمحوها. عفو عام على كل الجرائم. ليست الأرواح وحدها ما يقتل مرتين عندنا. مرة بجريمة اغتيالها ومرة ثانية بجريمة العفو عن جناتها وتبييض سجلاتهم. كل القيم تغتال عندنا مرتين. سيادة أجوائنا، وبيئة كيمياء الآخرين المجهولة، وأرضنا الموهوبة ومالنا العام وكل ما عندنا ولنا. لهذا يجب رفع الصوت الآن: لا تغطوا مخالفات سابقة بذريعة «مصلحة وطنية» أو مصلحة خاصة أو لاحقة. عار هذا السلوك. شائن معيب.
مثل أخير عن الارتكابات البوجية المطلوب غسلها. في البند نفسه ثمة لائحة بـ 19 جمعية، مُنحت كلها «صفة المنفعة العامة». وجرى تأريخ تلك «المنحة» قبل أسبوعين فقط من تشكيل حكومة تمام سلام. استلحاقاً. منحة تعني في ما تعني، كما يقول الخبراء، الاستفادة من إعفاءات ضريبية وجمركية ومساعدات رسمية وموازنات مخفية ومرئية. هل يعلم اللبنانيون لمن تعود تلك الجمعيات في أكثر من ثلثيها؟ نتحدى القيمين على مجلس الوزراء، أن ينشروا لائحة بأسماء تلك الجمعيات، ليكتشف الناس لمن تتبع ومن تنفع. نتحداهم. ثمة حدود للعيب، إلا في هذا البلد.
كلام في السياسة | نتحداهم... انشروا اللائحة!
شكّك البعض في كلام هذه الزاوية قبل أسبوع، عن نقل أسلحة كيماوية عبر مطار بيروت، أو حتى إلى بيروت. وخاصة أن المسألة كانت قد أثيرت في الإعلام أكثر من مرة، وقوبلت دوماً برفض مطلق من المسؤولين المعنيين وبتكذيب وتأكيد أن بلاد الأرز الغراء الخضراء، غير معنية بأزمة الكيماوي السوري، ولا بغيره من الجنسيات، لا ممراً ولا مقراً. بعض الذين لا يزالون يصدقون السياسيين والمسؤولين عندنا، اعتبر كلام هذه الزاوية من نوع المبالغة، أو حتى التجني.