«في خضم «معارك الأيام العشرة» في يوليو 1948: قال ديفيد بن غوريون: يجب أن تنتهي الحرب بمثل هذا القصف لدمشق وبيروت والقاهرة، حتى لا يعود لديهم أي رغبة في تحدّينا [في] الحرب وصنع السلام معنا. وأوضح أنه يجب أن نكتسب قلب العرب، وبطريقة واحدة فقط يمكننا تعليمهم احترامنا. إذا لم نقصف القاهرة فسيعتقدون أن بإمكانهم نسف تل أبيب».(من محضر اجتماع 11 يوليو 1948، المحفوظ في أرشيف الكيان الإسرائيلي، دولة بأي ثمن - قصة حياة ديفيد بن غوريون، 2018, p.416).

قبلت إسرائيل بقواعد اللعبة مع حزب الله في لبنان. لا عمليات عسكرية أو حتى أمنية تؤدي إلى سقوط عناصر أو كوادر من الحزب. وقررت، بناء على ذلك، الطلب إلى أجهزتها العملانية، الاستخباراتية والتنفيذية، ابتداع وسائل تتيح لها تحقيق المطلوب من دون ترك أثر. لكنها أعطت نفسها حق القيام بما هو أكثر في ساحات أخرى. لدى العدو وحدة مستقلة تعمل على حزب الله. تطارده في لبنان وخارجه. في كل ساحة، تضع إسرائيل تصوراً خاصاً لمواجهة الحزب. وغالباً، يبرر العدو أعماله بـ«الإجراء الوقائي» لاعتقاد قيادة العدو بأن الحزب يسعى إلى إيقاع الضرر بإسرائيل، إما انتقاماً لعمليات اغتيال أو كرد على رسائل لا يعرف الجمهور الكثير عنها.
في سوريا والعراق ومناطق أخرى، يركز العدو على عمل أكثر مباشرة، لأن الخطر بالنسبة إليه في لبنان، يتعلق بعملية لوجستية – أمنية – عسكرية. بمعنى أدق، يسعى العدو إلى توجيه ضربات مباشرة للحزب في مجال تعزيز قدراته العسكرية ولا سيما الصاروخية منها. والتعديل الذي قبلت به إسرائيل، في سوريا كما في العراق، هو أنها ملزمة بعمليات «نظيفة». أي أن على قواتها تجنب التعرض لعناصر المقاومة أو كوادرها خلال أي عمل أمني أو عسكري. لذلك، يعمد العدو في حالات كثيرة إلى إبلاغ الروس مسبقاً أنه في صدد توجيه ضربة جوية إلى هذا الموقع أو تلك الآلية، ليتولى الروس إبلاغ السوريين أو الإيرانيين، أو حتى حزب الله مباشرة، لتجنّب وقوع خسائر بشرية. وفي حالات أخرى، يوجّه العدو طلقات تحذيرية لدفع عناصر الحزب إلى مغادرة مركز أو عربة قبل ضربها بقليل. ووصل الأمر في بعض الحالات إلى إيجاد وسائل اتصال تقني تتيح له الطلب من عناصر الحزب مغادرة نقطة معيّنة لأنها ستتعرض للضرب.
لكن، في كلا الحالتين، لا يمكن للعدو الوقوف مكتوف الأيدي إزاء ما يسميه «برنامج تعاظم القدرات لدى حزب الله»، كما هي الحال مع قوات الحرس الثوري الإيراني أو فصائل المقاومة العراقية في سوريا أو العراق، لأن لدى العدو برنامجاً آخر اسمه «منع تمركز إيران في المناطق القريبة». والعدو، هنا، يجبر نفسه على خيارات عملانية من النوع الصعب والمعقّد، بما في ذلك القيام بعمليات أمنية بالغة الحساسية خلف خطوط العدو لتوجيه ضربات مباشرة، نوعية أو وهمية. لكنه يقوم بما يريد من خلال إبلاغ إيران وحلفائها في المنطقة بأن إسرائيل لن تقف متفرجة على ما يحصل بالقرب منها.
إسرائيل تدعم الفتنة الداخلية لعجزها عن حرب واسعة والمقاومة ترفض الفتنة لكنها لن تكبّل نفسها بالصمت والموت


وإذا كان لدى العدو برنامج عمل يستهدف فقط ضرب المقاومة في لبنان أو سوريا أو العراق، أو حتى إيران، فإنه ينظر بقلق إلى تطورين بارزين في السنوات الأخيرة. الأول يتصل بواقع المقاومة في فلسطين وخصوصاً بعد معركة «سيف القدس» وتطور علاقة المقاومة في فلسطين مع محور المقاومة الذي تقوده إيران ويفعّله حزب الله. والثاني يتعلق بما يجري في اليمن. إذ يتصرف العدو بأن ما يحصل في هذا البلد ليس سوى عملية بناء لقدرات صار مضطراً لأن يضعها في الحسبان، ليس لكونها في يد قوة معادية فقط، بل لكون هذه القوة تعلن جهاراً أنها جزء من معركة تحرير فلسطين. أضف إلى ذلك أن العدو يعرف معنى أن يتحول اليمن قاعدة متماسكة في قلب محور المقاومة. وهو اكتشف، خلال مواجهة «سيف القدس»، أن «أنصار الله» في اليمن، اتخذوا خطوات عملانية وأبدوا استعداداً للدخول في الحرب متى اقتضى الأمر. ورصدت استخبارات العدو اتصالات بين فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين وبين «أنصار الله» تضمّنت معطيات يدرك العدو أن فيها ما يؤذيه في ما لو دخل اليمنيون في الحرب. ولذلك، اضطر، للمرة الأولى منذ عقود طويلة، إلى إعادة تفعيل قيادة الجبهة الجنوبية التي أقفلت منذ الاتفاق مع مصر والأردن.
عملياً، ليس بيد العدو اليوم سوى النظر في وسائل محاصرة المقاومة في لبنان وبقية المواقع. صحيح أن جيش الاحتلال لا يتوقف عن التدريب على حرب واسعة تشمل جبهات عدة، لكنه يتصرف بحذر شديد مع الجبهة الشمالية، وهو يعي تماماً أن قدرات المقاومة في لبنان أو سوريا أو حتى العراق ليست من النوع الذي يقارن بما هو موجود في قطاع غزة. كما أن الهشاشة التي ظهرت بها جبهته الداخلية جراء تساقط صواريخ المقاومة الفلسطينية في أيار الماضي، تشي بمخاطر لا قدرة له على ضبط نتائجها ولا حدودها، فكيف وهو مضطر لأن يتصرف على قاعدة أن المقاومة في لبنان يمكنها ليس فقط إطلاق الصواريخ بطرق مختلفة، بل استخدام أنواع من الأسلحة الفتاكة على أكثر من صعيد، إضافة إلى احتمال قيام المقاومة بعمل هجومي يستهدف السيطرة على مناطق في الجليل الأعلى، وهو ما لم يكن يعتقد بأنه سيأتي يوم يضطر للتعامل مع هذا الأمر كاحتمال حقيقي، وهذا ما يوجب على العدو اللجوء إلى وسائل أخرى في مواجهة المقاومة في قلب لبنان.
في هذا السياق، ينبغي النظر إلى جانب من الأزمة اللبنانية. صحيح أن المشكلة هنا لا تتعلق حصراً بالمساعي الإسرائيلية، وأن اللبنانيين عموماً، وبينهم حلفاء للمقاومة، يتحملون مسؤولية الخراب الداخلي. لكن ما يجب عدم التغافل عنه، ولو رفض لبنانيون ذلك، هو أن سعي مجموعات لبنانية، بدعم من دول عربية وجهات غربية، لأن يكون ملف المقاومة هو عنوان المواجهة الداخلية، لا يمكن عزله عن المشروع الإسرائيلي. ولا ضير هنا من اتهام هذه المجموعات بأنها تقوم بعمل يخدم فعلياً العدو، ويجب قول هذا الكلام صراحة حتى ولو اعتبره البعض اتهاماً له بالخيانة، علماً أن «لاجئي الإمارات» من اللبنانيين توقفوا عن الخداع والمداراة وصاروا يتحدثون علناً عن «خطأ عدم اللحاق بركب السلام مع إسرائيل».
وفق هذا المنطق، يجب النظر إلى المرحلة الجديدة من المواجهة الداخلية القائمة، سواء في ما خص عمل الحكومات أو الانتخابات النيابية أو السياسات الاقتصادية والمالية، وصولاً إلى العلاقات الخارجية للبنان. والجديد هنا، أنه مثلما لا يهتم الأميركيون والغربيون وبعض العرب بالعمل في وضح النهار ضد المقاومة، مستفيدين من وجود مرتزقة لبنانيين يطلقون على أنفسهم ألقاباً تحت مسمى السياديين، فإن على هؤلاء الأخذ في الاعتبار أن المقاومة باتت مضطرة للتشهير بهم علناً، وأن هذا التشهير لا يمكن وضعه في خانة التحضير لعمل أكبر، لكنه إجراء بديهي وعادي إزاء من يعمل على تهيئة المناخ لحروب أهلية جديدة في لبنان. ومثلما تتمسك المقاومة بخيارها تحمل الضغوط وعدم الانجرار إلى حرب أهلية، فهي تتمسك بحقها في الدفاع عن نفسها في مواجهة هذه المجموعات ومشغّليها بمعزل عن طبيعتها وعناوينها وحجمها وطريقة عملها.
لبنان اليوم مقبل على مستوى جديد من المواجهة. وإذا كان بيننا من يستعد لمغامرات متجاهلاً حقائق التاريخ، فإن بيننا أيضاً من يهتم للحفاظ على مكتسبات معارك التحرير في الجنوب وسوريا وحتى الداخل. وهذا الاهتمام بات يوجب علينا، في لحظة الحسم، الاستعداد للمنازلة الكبرى مع هؤلاء، بقسوة لا تقودنا حتماً إلى المواجهة التي يريدون. إنها لعبة تتطلب، إلى جانب الهدوء والصبر، الكثير من الحكمة والذكاء والفعالية، وهي عناصر خبرناها مرات ومرات عند المقاومة وجمهورها خلال أربعة عقود، ولا نزال.