يسلك تعديل قانون سرية المصارف رحلته الأخيرة، اليوم، في جلسة لجنة المال والموازنة النيابية، قبل أن ينتقل إلى الهيئة العامة للتصويت عليه. التعديلات التي أعدّتها اللجنة بالتعاون مع نقابة المحامين في بيروت، في حال إقرارها، تتضمن سحباً للصلاحيات الحصرية من يد هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان وتضعها في تصرف القضاء والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والإدارة الضريبية. وبمعزل عن الحملة التي تشنّها المصارف ووسائل إعلامها، منذ أسبوع، حول «ضرب آخر أسس الثقة بالقطاع المصرفي»، فإن تعديلات كهذه ستنهي حقبة كاملة من الأمجاد الوهمية التي بنيت عليها تسمية «سويسرا الشرق» منذ 66 عاماً. فما كان يحصل بالفعل، أطاح بالإنتاج المحلّي والموارد لصالح تحويل الدولة إلى «جنّة» للمتهربين من الضرائب والفاسدين من نافذين وسياسيين وكل من يبحث عن حماية مقوننة لأمواله المتأتية من فساد أو اختلاس أو إساءة استخدام نفوذ، أو أي أعمال غير مشروعة.تعديل قانون سرية المصارف لا يعني كشف حركة الحسابات المالية عشوائياً واستنسابياً كما يروّج المصرفيون. إذ إن رفع السرية المصرفية مرتبط بتحقيقات تقوم بها السلطات القضائية أو غيرها من المراجع المختصة المحدّدة، في حال إثبات شبهات فساد أو جرائم مالية أو تهرب ضريبي وغيره، وهي لا تشمل المودعين العاديين أو الأجانب. فمن موجبات هذه التعديلات، أن القانون بصيغته الحالية، شكّل في السنوات الثلاث الأخيرة التي أعقبت الانهيار، رادعاً أمام طلب القضاء الكشف عن حسابات مالية لمتورّطين بالفساد أو تجميدها. إذ دأبت هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، صاحبة الصلاحية الحصرية في البت بمواضيع مماثلة، على رفض التعاون مع السلطات القضائية وغيرها بحجة عدم استقلالية القضاء أو تسييس الملف. علماً بأن رئيس الهيئة ليس هو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نفسه.
هكذا استُخدم قانون السرية المصرفية لتغطية كل موبقات الطبقة الحاكمة وأزلامها بحماية مصرفية ونيابية ما زالت مستمرّة حتى الساعة. وثمة خشية من أن يتمكّن اللوبي المصرفي - النيابي من الحؤول دون إقرار هذه التعديلات في جلسة اليوم أو إفراغ التعديلات من مضمونها المطلوب.
رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان قال لـ«الأخبار» إن «إقرار التعديلات على هذا القانون يشكل تناغماً مع المعايير الدولية وتجاوباً مع كل المطالب المحلية والدولية بتأمين شفافية أكبر لجهة مكافحة الفساد وتبييض وتهريب الأموال والتهرّب الضريبي. بالتالي، فإنه خارج هذه الأطر، لم تمسّ السرية المصرفية». ولفت إلى أن «الآليات التي وُضعت تتضمن الكثير من الضوابط لمنع الاستنسابية من قبل أي جهة قضائية أو سياسية أو إدارية، بما يمنع استخدام القانون بخلفيات انتقامية أو لتصفية الحسابات. لذا، يبقى الأمر كله مرتبطاً بتطبيق هذه القوانين، أي أن المشكة ليست في التشريع بل في ضمان عدم إخضاعها لمصالح خاصة، وبوجود قضاء مستقل ليحاسب تجاوزات السلطة».
لكن تجب الإشارة إلى أن التعديلات المطروحة من خلال مشروع قانون أحالته الحكومة إلى مجلس النواب، لا يأتي بسبب صحوة حكومية أو نيابية، بل هو شرط أساسي من شروط صندوق النقد، حتى يتطابق مع القانون الدولي، وربطاً بإزالة العوائق أمام هيكلة المصارف، والتحقيق في الجرائم المالية ومحاربة الفساد.
ثمة مسألة مهمة في هذه التعديلات متصلة بضمان حسن التنفيذ، أي حتى لا يبقى مجرد حبر على ورق، وهي بمثابة الطبق الأدسم على طاولة اللجنة اليوم عنوانها «المفعول الرجعي لأحكام رفع السرية المصرفية». فالمصارف تضغط من أجل أن يكون القانون مجرداً من أي مفعول رجعي، على طريقة عفا الله عما مضى، وتسعى لتحقيق هدفها بواسطة بعض النواب. ويساندها القطاع الخاص أيضاً من خلال التعبير عن خشية رجال الأعمال من استخدام المفعول الرجعي لابتزازهم.
في المقابل، قدمت نقابة المحامين في بيروت، عبر المحامي كريم ضاهر، اقتراحاً لتطبيق المفعول الرجعي مع تحديد ضوابط له تتعلق بالجهة التي تمسك صلاحية الطلب، بأن تكون المرجعية النهائية للحصول على المعلومات هي الجهة الأعلى إدارياً وليس أي موظف عادي، منعاً لأي استنسابية أو ابتزاز. ويشدّد ضاهر على أن «نقابة المحامين تعلق أهمية على المفعول الرجعي خصوصاً في الحالات التي تتعلق بإعادة هيكلة المصارف ومكافحة الفساد وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع».
التعديلات الأبرز التي أدخلتها لجنة المال والموازنة بالتعاون مع نقابة المحامين في بيروت أفضت إلى توسيع نطاق الحالات التي تُرفع بموجبها السرية المصرفية وتوسيع دور المراجع التي يحق لها طلب رفع السرية وخصوصاً القضاء الذي كان مقيداً بدعاوى الإثراء غير المشروع فقط على النحو الآتي:
- ذكرت المادة السابعة 4 جهات يمكنها طلب رفع السرية المصرفية من دون رفض المصارف لطلبها: القضاء المختص في دعاوى الفساد والجرائم المالية ودعاوى الإثراء غير المشروع، هيئة التحقيق الخاصة في ما يتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في ما خص مكافحة الفساد استناداً إلى قانون إنشائها، الإدارة الضريبية بهدف مكافحة التهرب الضريبي استناداً إلى قانون الإجراءات الضريبية. ويعلق ضاهر على هذا التعديل بأن «ما حصل هو استرداد القضاء لصلاحيته بشكل عام». والأهم أن أحكام هذا القانون ستكون مرجحة على بقية القوانين وبخاصة القانون 32/2008 الذي حصر صلاحية تجميد ورفع السرية المصرفية عن الحسابات المصرفية بهيئة التحقيق الخاصة. وبات يمكن للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على سبيل المثال، طلب رفع السرية مباشرة من دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة.
- تم تشديد العقوبات على مخالفي قانون سرية المصارف في المادة الثامنة لتنص على إضافة غرامة تتراوح بين 300 و500 مليون ليرة، مع إمكانية مضاعفة الغرامة في حال تكرار المخالفة أو التمادي فيها. وإمكانية إحالة المصارف المخالفة على الهيئة المصرفية العليا وتحديد مهلة أسبوعين لها لتتخذ الإجراءات القانونية المناسبة. إضافة إلى إمكانية تحريك دعوى الحق العام بناءً على طلب الجهات المختصة بطلب المعلومات عن الحسابات المصرفية بعدما كانت تقتصر على شكوى يتقدم بها المتضرر. ويقول ضاهر: «حاولنا رفع الغرامة وجعلها نسبية أو مضاعفة إلا أن طلبنا لم يلق تجاوباً. لكن استطعنا فرض السجن للمخالف ولو أننا كنا نتمنى عقوبة رادعة ومماثلة لتلك الموجودة في القانون 44 المعني بتبييض الأموال أي من 3 إلى 7 سنوات سجناً. غير أن النواب توصلوا إلى حلّ وسط وحددوا العقوبة ما بين 3 أشهر وسنة».
- في المادة الثانية من القانون المتعلقة بمبدأ السرية المصرفية جرى توسيع قاعدة رفع هذه السرية لتشمل، بالإضافة إلى الإذن الخطي من صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم أو إذا أعلن إفلاسه أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها، مراجع رسمية أخرى.
المصارف تضغط لمنع المفعول الرجعي للتعديلات


- أجازت المادة الثالثة فتح الحسابات المرقمة وتأجير الخزائن الحديدية المرقمة التي يحصر حقّ العلم بأصحابها بمدراء المصرف المعني أو وكلائهم، بعدما كان المطلوب إلغاء هذا النوع من الحسابات. لكن أضيف نص يرمي إلى إخضاع فتح هذه الحسابات وتأجير الخزائن للإجراءات ذاتها المعتمدة في فتح الحسابات العادية وإخضاع كل عملية إيداع فيها أو تحويل إليها لإجراءات التدقيق المقررة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
- عدلت المادة الرابعة المتعلقة بعدم جواز إلقاء الحجز على أموال وموجودات الزبائن في المصارف إلا بإذن خطي من أصحابها، لتتيح تجميد هذه الأموال والموجودات وحجزها في حالة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب أو في جرائم الفساد والإثراء غير المشروع.
- تعديل المادة 23 من قانون الإجراءات الضريبية بما يتيح تعزيز الامتثال الضريبي. على أن الأهم هو إعطاء صلاحية تحديد دقائق التطبيق بمجلس الوزراء بوصف المرجع المسؤول أمام السلطة التشريعية. ويوضح ضاهر أنه وفقاً لهذه التعديلات «منعنا ترك آلية التطبيق للتعاميم من دون شرط، أو قيد تطبيق القانون للتعاميم من دون قيد أو شرط، كما منعنا منح هذا الامتياز لأي مدير في وزار المالية أو موظف ليصبح الأمر مربوطاً بالمرسوم الحكومي».
- تعديل نص المادة 103 من قانون ضريبة الدخل بحيث حذفت منه الفقرة الثانية التي كانت تحول دون حق الإدارة الضريبية بالاطلاع لدى المصارف على المعلومات اللازمة لمكافحة التهرب الضريبي من قبل المكلفين أو المكتومين.



تعديلات ملازمة
لم يقتصر التعديل على قانون سرية المصارف بل تطرق إلى تعديلات متعلقة بقانون النقد والتسليف وقانون الإجراءات الضريبية وقانون ضريبة الدخل:
1- تعديل المادة 150 من قانون النقد والتسليف التي أضيفت إليها ثلاث فقرات:
- لا تحول أحكام قانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 دون قيام أية إدارة أو أي موظف من موظفي المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف بواجباتهم.
- يمكن للجنة الرقابة على المصارف والمصرف المركزي الطلب من المصارف تقديم معلومات محمية بالسرية المصرفية.
- تحدد دقائق تطبيق هذه المادة بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية وبعد استطلاع رأي المجلس المركزي لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف.
2- تعديل المادة 23 من قانون الإجراءات الضريبية وحصر صلاحية تحديد دقائق التطبيق بمجلس الوزراء بوصفه المرجع المسؤول أمام السلطة التشريعية.
3- تعديل نص المادة 103 من قانون ضريبة الدخل بحيث حذفت منه الفقرة الثانية التي كانت تحول دون حق الإدارة الضريبية الاطلاع لدى المصارف على المعلومات اللازمة لمكافحة التهرب الضريبي من قبل المكلفين أو المكتومين.