تطرح بعض منظمات المجتمع المدني، التي نشأت أو تطوّرت بفعل الأزمة، شعارات عن «المحاسبة» ذات طابع ترويجي يأتي في سياق المتاجرة بالمودعين. ففي اللقاء الذي دعت إليه مجموعة من منظمات (الجمعيّة اللبنانيّة لحقوق المكلّفين، كلّنا إرادة، مرصد حقوق المودعين، مرصد الوظيفة العامّة والحكم الرشيد في جامعة القدّيس يوسف، المفكّرة القانونيّة)، الأسبوع الماضي في جامعة القدّيس يوسف بعنوان «المحاسبة عن الأزمة الماليّة: خمسة شروط لأي إصلاح»، تبيّن أن الشروط المذكورة تأتي بعد سقوط فكرة المحاسبة الشعبية، ووسط غياب المحاسبة القضائية، وانخراط واسع في الترويج للمحاسبة عبر الأطر البيروقراطية التي تسوّق لها قوى السلطة، بينما الآن يجري التسويق للاستعانة بالخارج.عرض اللقاء الشروط الخمسة باعتبارها مدخلاً للمحاسبة عن الخسائر المالية، وهي: التدقيق في الحسابات المصرفيّة لتحديد الودائع المؤهّلة للاسترداد، التدقيق الجنائي، تعيين هيئة مصرفيّة مستقلّة لقيادة إعادة هيكلة المصارف، تجميد إدارات المصارف الحاليّة والحجز على أصولها، محاسبة صنّاع القرار في القطاع المالي. وأضاف إليها المدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية ثلاث نقاط أساسيّة ترتكز على إعادة هيكلة المصارف وكيفيّة حلّ أزمة المودعين وقوانين استقلال القضاء.
هذه العناوين سبق أن طُرحت عشرات المرات في الاجتماعات الرئاسية وفي مجلسَي النواب والوزراء، فضلاً عن لقاءات وندوات عامة وتلفزيونية شارك فيها ممثلو منظمات المجتمع المدني الذين قرّروا التخلّي عن المحاسبة الشعبية، وإحياء لوبيات تنخرط في التعامل مع قوى السلطة كركن من أركانها. وهو الأمر الذي استفزّ المشاركين في اللقاء. النائب الياس جرادة مثلاً، تحدّث عن «وجود تجمّعات كثيرة وضعيفة»، معتبراً أنّهم «مشتّتون»، وأنهم يفرّخون تجمّعات جديدة يومياً. واستعاض جرادة عن النقاش بالشروط الخمسة، من خلال العودة إلى مسألة أساسية متصلة بالمحاسبة الشعبية، إذ لفت إلى أن هذه التجمّعات ليس لديها القدرة على التحرّك في الشارع أو داخل البرلمان بسبب كثرة الخلافات، داعياً المنظّمات والجمعيّات إلى «التواضع» ووضع الـ«ego» جانباً.
بالفعل، لم تستطع هذه الجمعيّات خلال ثلاثة أعوام من الأزمة الاقتصاديّة في لبنان، تحقيق تأثير ايجابي على الواقع المالي والقانوني في البلاد. ففي اللقاء، ركّز قادة التجمّعات على عرض النقاط التي يرونها كطريق للمحاسبة والإصلاح من دون التّطرق إلى القدرة على تطبيقها.
الجانب الآخر من المحاسبة الذي لم تتطرّق إليه، هو الجانب القانوني. المؤرّخ عصام خليفة علّق على الشروط الخمسة مشكّكاً بنوايا وجديّة مجلس القضاء الأعلى والقضاة، كاشفاً عن «عشرات اللقاءات مع المدّعي العام المالي الّتي لم تسفر عن نتيجة»، قائلاً: «يتهرّبون». وحدّد خليفة الأولويات بأنه في حال فشل الطّرق القانونيّة للإصلاح والمحاسبة، يجب التوجه نحو «إقامة محاكمات شعبيّة» ثم دعا نقيب المحامين ناضر كسبار، الذي حضر اللقاء، إلى للمشاركة «بخبراتهم القانونيّة وبما لديهم من ملفّات لإبرازها».
إذا فشلت الطّرق القانونيّة للمحاسبة يجب إقامة محاكمات شعبيّة


سوء أوضاع القضاء في لبنان فجّر نقاشاً حامياً. وقد تحدث صاغية عن ارتضاء الهيئات القضائية قبول «منفعة غير مشروعة» من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قاصداً الحديث عن تحويل رواتبهم على أساس سعر صرف يبلغ 8000 ليرة مقابل الدولار، ما وضعهم تحت «رحمته». عندها تلقفت القاضية رنا عكّوم هذا الاتهام، مشيرة إلى أنه «في حال كان تمويل الزيادة من قبل مصرف لبنان غير مشروع، فكلّ عمليّة صيرفة نقوم بها هي أموال غير مشروعة أيضاً لأنّها صادرة عن مصرف لبنان»، وأضافت إنّ الزيادات التي يموّلها مصرف لبنان «تشمل أيضاً الجيش وأوجيرو وتاتش وألفا...». لكن النائب الياس حنكش لفت إلى التخلّي عن مسار المحاسبة الشعبية، وتقاعس القضاء، ما اعتبره «فشل المسار التشريعي» مستعيداً مشاركته في اللجان النيابية.
أمام هذا النقاش، فتح رئيس الجمعيّة لحقوق المكلّفين، المحامي كريم ضاهر، النقاش حول المسار القضائي الأوروبي، كاشفاً أن التحرّك العدلي الأوروبي والتحقيقات مع شخصيّات مصرفية لبنانيّة هو نتاج متابعة قضائيّة قام بها لبنانيّون. وشرح أنّ النيابة العامة السويسريّة تحرّكت بعد أدلّة قدّمها لها ناشطون من داخل لبنان لقّبهم بـ«Whistle Blower»، معلناً عن وجود تنسيق بين مغتربين لبنانيّين في فرنسا، قاموا بالضغط الإعلامي تزامناً مع التحقيق الجنائي واستعانتهم بشركات مختصة بالجرائم الماليّة «Economic intelligence». وقال ضاهر إنّ الوفد الأوروبي سيتمكّن من التحقيق داخل لبنان، مستفيداً من عدّة قوانين وضعها «جنود مجهولون»، مشيراً إلى وجود اثنين منهم بين الحاضرين: وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم والقاضية رنا عكوم.