عمّان | يخاطر الأردن بفتح معركة مع الصين قائمة على إقصاء «هواوي» عن تلزيمات تركيب شبكة اتصالات الجيل الخامس (5G). مخاطرة غير محسوبة يتوقع أن تظهر إلى العلن خلال ساعات أو بضعة أيام، بمباركة ملكيّة تقف خلفها تعليمات أميركية. فالهيئة المنظمة للاتصالات يُفترض أن تأخذ قراراً بشأن تقديم عروض تركيب شبكة الـ 5G واستبدالها تدريجاً بالشبكة القائمة حالياً. وهو قرار يأتي بعد إقصاء منهجي لشركة «هواوي» بناء على التعليمات نفسها التي أفضت إلى كشف أسعار الشركة الصينية أمام منافسيها «إريكسون» و«نوكيا سيمنز» و«سيسكو» و«راكوتن». لكن الأمر لا يتعلق بمخاطرة فقدان كسب ودّ الصين فحسب، لأن الأردن ذا الاقتصاد المأزوم الذي يعيش على التسوّل منذ سنوات طويلة، سيضطرّ إلى أن يدفع ثمناً باهظاً بالعملة الأجنبية من أجل تحقيق رغبات أميركية لم تتحوّل إلى واقع في الدول الحليفة والصديقة للولايات المتحدة. وهذا الثمن سيُدفع على شكل أسعار أعلى للمستهلك، وكلفة استثمار أكبر لإحلال المنافسين بدلاً من الشركة الصينية، وإعفاءات ستقدّم للشركات المشغّلة لتعويضها عمّا سيصيبها بسبب هذا الإقصاء. كل ذلك ستتحمله الخزينة الأردنية ديناً إضافياً على شعب مثقل بدين يتجاوز 45 مليار دولار، 90% منه بالعملة الأجنبية وخدمة دين تفوق 3 مليارات دولار سنوياً، فضلاً عن بطالة للشباب الأردني تفوق 50%، وعجز في الموازنة العامة يبلغ 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي. والأردن يستعمل في هذه المعركة كنقطة انطلاق أميركية، وليس كهدف بحدّ ذاته، أي من هناك ستبدأ عملية إقصاء «هواوي» في لبنان حيث شاركت في تمديد شبكة الفايبر أوبتيك وفي تجهيز شبكات الاتصالات الخلوية، وفي دول أخرى أيضاً.معركة الإقصاء هذه بدأت في الصيف الماضي حين أطلقت هيئة تنظيم قطاع الاتصالات مشروع تحويل شبكة الاتصالات الخلوية إلى الجيل الخامس. في البدء، وقّعت الهيئة اتفاقيات تمهيدية مع شركتين مشغّلتين للقطاع من أصل ثلاث، وهما: «أورانج»، و«أمنية». إنما المشغّل الثالث، أي «زين» الكويتية، أبى التوقيع قبل أن يستكشف حقيقة الضغوط لإقصاء مورّده الأساسي «هواوي». يومها نُقل عن الرئيس التنفيذي لمجموعة «زين» بدر الخرافي، رفضه القاطع لوقف التعامل مع «هواوي» مبرراً ذلك بأن أسعار الشركة الصينية منافسة وأنها تملك تقنية أحدث، إذ إن التعامل مع شركات أخرى سيكبّده خسائر. الخرافي أبلغ سائليه أن «هواوي» شريكة أساسية معه في كل سوق الشرق الأوسط وأنه ليس مستعداً لخسارتها. ما قصده الخرافي هو أن الضغوط لإقصاء «هواوي» حصلت هي نفسها في دول خليجية صديقة للولايات المتحدة ولديها علاقات تطبيع مع العدو الصهيوني، لكنها لم تخضع كما هي حال الأردن. رغم ذلك، وقّع الخرافي لاحقاً الاتفاقية مع وعود بالمنّ والسلوى. تضمّنت هذه الوعود أن ينال مشغّلو الاتصالات الثلاثة في الأردن إعفاءات من الرسوم والضرائب، بالإضافة إلى تخصيصهم بتردّدات إضافية مجانية لفترة من الزمن تدرّ عليهم الكثير من الأرباح بدلاً من أن تصبّ في خزينة الدولة.
هكذا، أطلق المشغّلون الثلاثة سلسلة مفاوضات مع مورّدي تقنيات الـ 5G. في البداية لم يستثنوا «هواوي»، وإنما جرى تركيز مفاوضاتهم بشكل جدّي مع «إريكسون»، أي مع الشركة التي تستعملها أميركا لقطع الطريق أمام «هواوي». و«إريكسون» لديها تاريخ «وسخ» في الفساد الموجّه سياسياً. ففي السويد، بلد المنشأ لهذه الشركة، أطلقت وكالة مكافحة الفساد السويدية تحقيقاً في وثائق تثبت وجود مدفوعات مشبوهة متّصلة بعمل «إريكسون» في السوق العراقيّة بين عامَي 2011 و2019. إذ تبيّن أن الشركة أنفقت على شكل رشى لشركات متعاقدة، ومنافع شخصية لبعض العاملين، إضافة إلى تعاملات مع «داعش»، في سبيل قطع الطريق أمام تكنولوجيا «هواوي» المتطوّرة في تقنية الـ 5G مقابل ضعف التكنولوجيا الغربية التي تقودها «إريسكون». في الواقع، «إريكسون» لديها حصّة سوقية عالمية بنسبة 15% في مقابل «هواوي» التي تملك 30%.

100,000

هو عدد براءات الاختراع التي تملكها «هواوي» في صناعة الاتصالات العالمية والابتكارات التكنولوجية، وبالنسبة إلى براءات الاختراع الخاصة بتكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات اللاسلكية (5G)، تستحوذ الصين على 41.3% من كل براءات الاختراع حول العالم


لكن لم يُكتفَ بذلك. فبحسب المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار»، جرى تواصل بين مسؤولين في الاستخبارات العامة الأردنية ومسؤولي الشركات المشغّلة لقطاع الاتصالات الخلوية في الأردن، وأُجبروا على التواطؤ ضدّ «هواوي» من خلال إفشاء أسعارها لمنافسيها من الشركات الغربية، بهدف إسباغ شرعية على عملية الإقصاء بأنها تمّت وفق قواعد شفافة. وإفشاء الأسعار ليس مسألة بسيطة في العالم التجاري. وهذا الأمر لن يكون سهلاً، إذا سُئل المسؤولون في الأردن عن هذا الأمر من قبل مسؤولين صينيين. عندها سيتوجّب عليهم تبرير كل هذه الفروقات في الأسعار التي حصلت في دول أخرى، مقارنة مع أسعار «هواوي» في الأردن، ولا سيما عندما يكون الأمر متعلقاً بتقنية متطورة وحديثة تملكها «هواوي» حصراً على مستوى العالم.
باستثناء شركة «أمنية»، لم يعلن المشغلان الآخران «زين» و«أورانج» استبعاد «هواوي» من لائحة المورّدين. «أمنية» هي الوحيدة التي أصبحت علاقتها مع «إريكسون» علنية، إذ قالت الأخيرة في بيان نشر على موقعها الإلكتروني إن «أمنية» اختارتها لتقديم أعمال المرحلة الأولى من شبكة الجيل الخامس في الأردن، علماً بأن «هواوي» من الموردين الأساسيين لكل من الشركات الثلاث.
المشكلة في هذا الخيار الذي يُؤخذ الأردن صوبه أنه مكلف جداً وغير عملي. ففي الوقت الذي بدأت فيه الإدارة الأميركية بمحاربة «هواوي»، ولا سيما في مجال شبكة الجيل الخامس (5G)، لم يسجّل خرق فعلي ضدّ التنقية الصينية حول العالم. ففي إنكلترا اتخذ قرار ضدّ هواوي أيام رئيس الحكومة بوريس جونسون، لكن الحكومة الجديدة تراجعت عنه وألغته، ولا سيما بعدما لوّحت الصين باتخاذ إجراءات دفاعية في المجال التجاري، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونينغ: «هناك ثمن يجب تسديده». وفي عدد من دول الخليج جرت محاولات كثيرة لطرد «هواوي» إلا أنها كلها باءت بالفشل. في نيوزيلندا أيضاً، تكرّرت المحاولة، وفي إسبانيا، وفي العديد من الدول الأوروبية. لكن الإجابات التي خرجت من هذه الدول ومعظمها منخرط في «الناتو» تفيد بأن ما يروّجه الأميركيون عن وجود باب خلفي تنفذ منه الاستخبارات الصينية لتتنصّت على الاتصالات لا دليل عليه، لا بل بالعكس هناك أدلّة على «هواوي» عرضت بيع الحلول التقنية وأن يكون التركيب على يد الشركات المحلية من دون أي وجود فعلي لها، لا بل عرضت بيع براءات الجيل الخامس.

%95

هي حصّة «هواوي» في حلول الاتصالات اللاسلكية في شركة «زين» في الأردن مقابل 10% لشركة «أورانج» و60% لشركة «أمنية»، أما حصّة الشركة الصينية في مجال العمود الفقري للشبكة «Core» فهي تصل إلى 100% مع شركة «أمنية»


الأغرب من ذلك كلّه، أن الشركات التي تزعم أنها قادرة على منافسة التقنية الصينية في مجال «الجيل الخامس» أو الـ 5G، تلجأ في كثير من الأحيان إلى تقنيات «هواوي»، إذ إن هذه الأخيرة تملك العدد الأكبر من براءات الاختراع على مستوى العالم في مجال الاتصالات، وتحديداً في مجال تقنية الـ 5G. «إريكسون»، و«نوكيا سيمنز» وسواهما من الشركات، يحصلون على إذونات من «هواوي» لاستعمال تقنياتها، وهذا بالتحديد ما سيحصل عندما يبدأ تركيب الشبكة الأردنية. لذا، إن المزاعم الأميركية بوجود باب خلفي يتيح الخرق الأمني، لن تتبخّر إذا أُقصيت «هواوي» واستُعملت تقنياتها من الباطن عبر الشركات الغربية. أما إذا استُعملت التعليمات الأميركية بالكامل، أي من دون أن يتاح للشركات الغربية استعمال التقنيات الصينية، فإن الشبكة التي سيتم تركيبها في الأردن ستكون عبارة عن تقنية غير مستقرّة خاضعة للتجريب.
والقصّة لا تقف عند هذا الحد. فبإمكان الأردن ألّا يستبعد «هواوي»، وإنما يقلّص حصّتها السوقية كنوع من التسوية، وهو أمر قد توافق عليه الشركة حتى لا تكون الشرارة في الحرب التجارية والتكنولوجية بين أميركا والصين قد اندلعت على الملعب الأردني، ومنها ستنتشر نحو لبنان وبلدان أخرى. فالأردن اليوم في وضع اقتصادي صعب ويحتاج إلى كل المساعدات، سواء تلك التي تأتي من الغرب أو من الشرق.

الاستخبارات العامة الأردنية تجبر مشغّلي قطاع الخلوي على إفشاء أسعار «هواوي»

التبادل التجاري مع الشرق أرخص ولا سيما بالنسبة إلى الحصول على الأجهزة والأدوات الصناعية، بينما الغرب لا يقدّم للأردن سوى مساعدات عبر صندوق النقد الدولي تغرقه في المزيد من الديون. بلغت قيمة الديون بالعملة الأجنبية في الأردن 41 مليار دولار، أي 90% من مجمل ديون الأردن، فضلاً عن خدمة دين بالعملة الأجنبية تبلغ 3.1 مليار دولا سنوياً. وهذا يعني أن التعويضات والإعفاءات التي ستُدفع للشركات المشغّلة من أجل مساعدة الولايات المتحدة الأميركية على تحقيق أحلامها العالمية على ملعب الأردن، ستموّل من الخزينة الأردنية ومديونيّتها المرتفعة على حساب خسارة كبيرة سيتكبّدها المجتمع الأردني من خلال زيادة الأسعار على المستهلك، ارتفاع كلفة الاستثمار، وتدنّي المردود أيضاً.