بعدما لوّح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، أخيراً، بالاعتكاف عن ممارسة مهامه الحكومية، طٌرح تساؤلٌ عما إذا كان في امكام رئيس الحكومة المستقيلة أو المعتبرة مستقيلة أصلا الاعتكاف عن تصريف الأعمال.من الثابت، نظرياً، أن الحكومة، في النظام البرلماني اللبناني، مسؤولة أمام البرلمان، وبالتالي تظلّ ممارسة مهامها قائمة ما دامت تحوز ثقة المجلس، فإذا ما قدّمت استقالتها أو اعتبرت مستقيلة، وفقاً لأحكام المادة ٦٩ من الدستور، يفقدها ذلك كيانها القانوني وتصبح، من ثم، غير مسؤولة سياسياً أمام مجلس النواب، حيث تبقى أعمالها خاضعة لرقابة القضاء الإداري وفق ما استقر عليه اجتهاد مجلس شورى الدولة..
إلا أن انتفاء المسؤولية السياسيّة أمام مجلس النواب الّذي يمارسها، في الأصل، وفق أحكام الفقرة الثانية من المادة ٦٤ من الدستور والفقرة «و» من المادة ٦٩ من الدستور، لا يُسقط المسؤولية القضائية الّتي يمارسها مجلس النواب بالاشتراك مع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي يتكوّن، عملا بالمادة ٨٠ من الدستور، من سبعة نواب ينتخبهم مجلس النواب، وثمانية قضاة. عندئذٍ يحقّ للمجلس النيابي أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو باخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم وفق منطوق المادة ٧٠ من الدستور، وبالتالي يصار إلى محاكمتهم، فور انعقاد الاتهام، أمام المجلس الأعلى، بموجب المادة ٧١ من الدستور، وأحكام المواد من قانون رقم ١٣/ ١٩٩٠...
أمّا الواجبات المترتبة على رئيس الوزراء في حكومة تصريف الاعمال تحديداً، والّتي قد يخلّ بها، في لحاظ المادة ٧٠ من الدستور، فتجد أساسها في الفقرة الثانية من المادة ٦٤ من الدستور، أيّ في ممارسة الصلاحيات ولو في المعنى الضيّق لتصريف الأعمال الذي خضع للعرف والاجتهاد في تحديد حدوده ونطاقه، من دون أن يتم إغفال ما قضى به مجلس شورى الدولة، بموجب قرار رقم ٣٤٩ تاريخ ٢٣/٢/٢٠١٥، حول طبيعة ودور الحكومة المستقيلة ومسؤولياتها، عندما أكّد أنّ نظرية تصريف الأعمال هي نظرية مُعَدّة للتطبيق خلال فترة زمنية محدَّدة انتقالية يجب أن لا تتعدى الأسابيع أو حتى الأيام. وإنّ تمدُّدها لفترة أطول لا بد أن ينعكس على مفهومها برمّته حتى يستطيع تحقيق الهدف منها وهو تأمين استمرارية الدولة ومصالحها العامة ومصالح المواطنين. وبما أنّ هذه الفترة الانتقالية عندما تمتد لعدة أشهر، فإنه يصبح من الواجب التعامل مع هذا الواقع بشكل يسمح للحكومة بتأمين استمرارية المرافق العامة وتأمين مصالح المواطنين التي لا يمكن أن تنتظر لمدة أطول. وهذا التوصيف، في رأينا، يجعل رئيس حكومة تصريف الاعمال ملزماً ممارسة المهام الموكلة اليه، وتالياً تسيير المرفق العام الذي يتمتّع، عملاً بقرارات المجلس الدستوري، بقيمة دستوريّة، لا سيما أن الحكومة الحالية مُناطٌ لها صلاحيات رئيس الجمهوريّة وكالةً، حيث لا يستطيع الوزراء ممارستها بمعزل عن رئيس حكومة تصريف الاعمال، وذلك لسببين:
الأول: يترأس رئيس الحكومة مجلس الوزراء ويدعوه للإنعقاد سنداً للفقرتين الاولى والرابعة من المادة ٦٤ من الدستور، وهي صلاحيةٌ غير قابلة للتنازل أو التفويض، ما دام الدستور، في أيّ نصٍ من نصوصه، لا يفترض آليّةً واضحة أو حلاً وظيفياً في الإنابة عن مهام رئيس الحكومة الواردة في المادة ٦٤ من الدستور، ريثما يجري تأليف الحكومة بعد انتظام المؤسسات الدستورية فور تطبيق أحكام أو مندرجات المادة ٤٩ من الدستور..
الثاني: إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية، طيلة فترة الشغور الرئاسي، بمجلس الوزراء وليس بالوزراء أو برئيس الوزراء بموجب المادة ٦٢ من الدستور، ما يعني أن اعتكاف رئيس الوزراء في حكومة تصريف الاعمال هو تعطيلٌ لمؤسسة دستوريّة يطال مداه المرافق العامة كافةً، علاوةً على أن المشرّع الدستوريّ دعا الحكومة المستقيلة في ممارسة صلاحياتها، ولو في المعنى الضيق لتصريف الأعمال، كهيئة جماعية لا مجموع اعضائها كلٍّ بمفرده، حينما استخدم عبارة: «تمارس الحكومة صلاحياتها».
يتضح مما تقدّم، أن اعتكاف رئيس حكومة تصريف الأعمال عن ممارسة مهامه الحكومية غير جائز دستورياً واجتهاداً، ذلك أن مهام الحكومة المستقيلة، لا سيما في فترة زمنية غير قصيرة، تبقى قائمة ولو في حدودٍ معيّنة، وبالتالي الامتناع عن ممارستها، هو خرقٌ للدستور، وإخلالٌ في الواجبات المترتبّة على رئيس مجلس الوزراء وفق الفقرة الثانية من المادة ٦٤ من الدستور، وبما تماشى عليه الاجتهاد الإداري في قرارات أو مطالعات مختلفة، حينئذ يستطيع المجلس الأعلى، لعلّة خرق الدستور والاخلال بالواجبات، أن يجري التوصيف القانوني للفعل كما يراه من دون أن يكون مقيداً في وصف الجنح والجنايات والعقوبات، سنداً للمادة ٤٢ من القانون رقم ١٣/ ١٩٩٠، في المقابل، يصح القول إن واجب تصريف الأعمال ليس قدراً محتوماً يلازم صاحبه من دون خيار هنا أو هناك، فاستقالة رؤساء الحكومات العادية، غير المستقيلة، أمرٌ طبيعي عندما تنبّه اليه المشرّع الدستوري الذي لم يحظّرها، أساساً، في نصٍ خاص، لكن الحظر، من دون شكّ، قد طال الوقوع في الفراغ ومفاعيله الممتدة على المرافق الحكومية وغير الحكومية، ويترجم في تفويض الحكومة المستقيلة أو المعتبرة مستقيلة بوجوب تصريف الأعمال واعتبار الامتناع عن هذا الواجب إخلالاً بأحكام الدستور وبالواجبات المترتبة عليها وتحديداً في موقع رئاسة الحكومة بسبب التلازم الوظيفي بين هذا الموقع والعمل الحكومي، وإلا من غير المنطقي، بمكان، ألا تتحمّل جهة معيّنة مسؤولية الفراغ، واستطراداً تبعة الخروج عن الدستور، وإلا أُفرغت نصوصه من محتواها، وصارت فولكلوراً يتغنّى بها النظام السياسي ليس إلا، على أن لا يٌتخذ من الفراغ شمّاعةً لتحصيل هذا المكسب أو ذاك، أو فرض شروط سياسية اضافية، فهو معطى يخرج عن إحتواء الدستور ودلالاته!

* باحث دستوريّ واستاذ جامعي في القانون العام