في الواقع، حصل هذا النهوض في المرفأ رغم مساعي وضع اليد والعرقلة الأجنبية. فمن بعد العرض الألماني، ثم العروض الأخرى، تبيّن أن البنك الدولي أعدّ مخطّطاً بعنوان «إعمار مرفأ بيروت وتطويره» قدّمه للبنان على شكل هبة. الهدف الواضح من مشروع البنك الدولي، تعطيل هذا المرفق العام لمصلحة تحويله إلى منطقة سياحية تطغى عليها المطاعم والمتاجر، مقابل الإبقاء على مساحة صغيرة منه لتعمل كـ«ميني مرفأ». مشروع كهذا، سيُخرِج مرفأ بيروت من الخريطة التجارية العالمية وسيلغي موقعه المكتسب من خريطة المرافئ في المنطقة، وهو أمر لا يصبّ سوى في مصلحة العدو الإسرائيلي لإنعاش مرفأ حيفا، وهذه نوايا لم يُخفِها المجتمع الدولي سابقاً.
رئيس مجلس إدارة المرفأ عمر عيتاني رفض عرض البنك الدولي. وقد سبق أن رُفض العرض الذي تقدّمت به ألمانيا بعد أشهر على الانفجار، إذ قضى يومها بتقسيم المرفأ إلى قسمين: قسم يشكّل محطة الحاويات ومرفقاتها، وقسم آخر يتمّ تطويره لبناء مدينة صغيرة نموذجية عبر ردم مساحات إضافية من البحر بما يشبه مشروع «سوليدير»، على أن تتولى شركات ألمانية الإدارة لمدة 20 عاماً. وتلا العرض الألماني، عرض شفهي فرنسي وآخر صيني إنما بقيا من دون أيّ مستندات رسمية.
واقع الحال، أن المجتمع الدولي يجول في البلد منذ ثلاثة أعوام باحثاً عن سبل لخصخصة المرفأ وتحجيم دوره، مقدّماً إغراءات على شكل عروض «إعادة إعمار» وهمية، إذ لا يحتاج المرفأ إلى أي إعمار وهو يعمل بشكل طبيعي وبكامل طاقته ويحقق إيرادات قياسية، إذ أُنجز «تلزيم إدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات لشركة cma cgm الفرنسية منذ عام ونصف عام، وتمّ تشغيل الرافعات الـ16. وأيضاً بعد عودة محطة البضائع إلى العمل كالمعتاد وترميم مباني المنطقة الحرة وقيام الشركات الخاصة بصيانة المساحات المستأجرة من قبلها في المرفأ» بحسب عيتاني. وبالتالي جلّ ما يحتاج إليه المرفأ اليوم هو «صيانة يمكن تسديد كلفتها من خلال النفقات التشغيلية، وتعديل خطّة السير داخل المرفأ وتطوير وتحديث بعض البرامج والأنظمة بما يتناسب مع المعايير العالمية. وتلك اقتراحات موجودة في مشروع مُعَدّ من قبل الإدارة، ما يؤكد عدم الحاجة إلى أي مساعدة دولية مهما كانت». وقد بوشر العمل على إعداد دفتر شروط لترميم محطة الركاب في الرصيف الرقم 5، علماً أنها تعمل اليوم واستقبلت أخيراً باخرة ركاب كبيرة فأُدخلت وتأمّنت عودتها بسلاسة.
مزايدة خردة الانفجار
بعيداً من «كذبة» الحاجة إلى إعادة إعمار المرفأ والغايات التي تقف وراءها، ثمة مشاكل في المرفأ مثل انخفاض عدد الموظفين من 1200 إلى 170 وصعوبة التوظيف بسبب القوانين التي تمنع ذلك، بحسب عيتاني. وهذا الرقم مرجّح للانخفاض أكثر مع خروج عدد إضافي من الموظفين قريباً إلى التقاعد ممن يشغلون مواقع مهمة: «من شأن ذلك أن يؤثّر على الإنتاجية، لذا هناك ضرورة قصوى لإيجاد حلّ تفادياً لتعطّل عمل الإدارة» يقول عيتاني.
89 ألف حاوية و14 مليون دولار شهرياً... وعدد الموظفين تراجع من 1200 إلى 170 فقط
هناك معضلة أخرى عصية على التفسير تتمثّل بترك الخردة الناتجة عن مخلّفات الانفجار على أرض المرفأ لثلاث سنوات من دون رفعها، علماً أن الرفع لا يكبّد الدولة أي قرش بل بالعكس يحقّق لها إيرادات. فالخردة هي بمثابة «ثروة» من النحاس والحديد يتنافس المقاولون عادة على شرائها. إنما هذه المعضلة باتت قريبة من الحل، إذ إنه يوم الثلاثاء الماضي، أطلقت وزارة الأشغال وإدارة المرفأ وهيئة الشراء العام، مزايدة عموميّة لبيع الخردة التي قدّرها الجيش بأكثر من 18 ألف طن. وكما في مسألة إعادة إعمار المرفأ، حاولت سابقاً إحدى الشركات الفرنسية وتدعى «recigroup» الاستيلاء على الخردة، وغلّفت نواياها بمحاولة إظهار الرغبة بمساعدة لبنان على رفع الأنقاض عن أرض المرفأ، وطالبت بأجر قيمته 6 ملايين يورو لقاء ما أسمته «معالجة الخردة» واشترطت منحها حقّ الاستفادة منها وبيعها وقبض ثمنها!
وزارة الأشغال من جهتها رفضت الطلب، لكن دخلت شركة أخرى من شباك ألماني، إذ حاولت شركة «كومبي ليفت» (combi lift) الألمانية التوسط لدى وزير الأشغال السابق ميشال نجار وأكّدت استعدادها لتأمين هبة لتسديد الـ 6 ملايين يورو التي يطلبها الفرنسيون، مقابل الموافقة على دراسة الفرنسيين وإعطائهم الإذن ببيع أنقاض المرفأ! علماً أن «كومبي ليفت» هي الشركة نفسها التي فرضت على الدولة عقداً بقيمة 3 ملايين دولار لنقل المستوعبات التي تحتوي على موادّ خطرة من المرفأ قبل أن يتبين لاحقاً أنها مجرد مستودعات تركها أصحابها وتحتوي على بضائع مثل أجهزة التلفاز والصابون ومستحضرات الشعر والاستحمام وغيرها.
تعطيل محاولة شركات أجنبية «سرقة» خردة المرفأ بحجة التبرّع بإزالتها
مزايدة الخردة لن تشمل هياكل السيارات المحطّمة التي يبلغ عددها نحو 1200 سيارة، إذ يفترض أن يقوم الجمرك بعرضها في المزاد العلني. إنما ثمة مشكلة في تسكير قيودها. وهناك من يقول إن هذه المسألة تحتاج إلى قانون صادر عن مجلس النواب في ظل تعطّل التشريع، في حين أن إدارة المرفأ أعدّت دفتر شروط لبيع السيارات، وتبحث عن آلية تسمح لها بإطلاق مناقصة عبر قرار حكومي طالما أن عائدات تلك المناقصة ستُحوّل مباشرة إلى الخزينة العامة.
من يستفيد من الحجز على ملايين الدولارات؟
النزاع القضائي مستمر بين إدارة المرفأ والنائب ملحم خلف بصفته ممثلاً قانونياً لبعض أهالي الضحايا والمتضررين من الانفجار. بنتيجته احتُجزت ملايين الدولارات العائدة للمرفأ، بأمر من رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية نجاح عيتاني بتاريخ 4 آذار 2021، يقضي بإلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال العائدة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت وعلى الأموال العائدة لمن سمّتهم «الأشخاص الثالثين»، أي الشركات المستوردة عبر المرفأ، بالإضافة إلى الأموال المحوّلة إلى مصلحة الصرفيات في وزارة المالية. وبحسب رئيس مجلس إدارة المرفأ عمر عيتاني «بلغت قيمة المبالغ المحتجزة نحو 50 مليون دولار منها ما هو فريش ومنها ما هو دولار محلّي، وأُودعت في المصارف». إذاً، الخزينة محرومة من 50 مليون دولار، وهو رقم مرشّح للزيادة باستمرار نتيجة تسديد الرسوم لدى المحكمة وعدم التعامل معها على أنها مال عام، اذ اعتبرت القاضية أنه لا يمكن اعتبار هذه الأموال عامة، إلا حين وصولها إلى الخزينة.قرار المحكمة جاء استجابة لطلب حجز مقدّم من إحدى المتضرِّرات من انفجار مرفأ بيروت نتيجة وفاة زوجها، وبوكالة من النائب خلف و23 محامياً آخرين، وطالبت بتعويض بقيمة 2 مليون دولار بالإضافة إلى الرسوم والمصاريف القانونية المقدّرة بـ200 ألف دولار. وتضمّنت الدعوى، طلباً بإلقاء الحجز على أموال إدارة واستثمار مرفأ بيروت ممثّلة بشخص ممثلها القانوني، إضافة إلى كل من: حسن قريطم، محمد العوف، شفيق مرعي، هاني الحاج شحادة، موسى هزيمة، نعمة البراكس وعبد الحفيظ القيسي، وذلك من دون أن يعرف أحد سبب اختيار هذه المجموعة من المدّعى عليهم. سبقت تلك الدعوى، دعوى مماثلة بوكالة خلف أيضاً، يطالب فيها بتعويض بقيمة 2 مليون دولار نيابة عن إحدى المتضررات من انفجار المرفأ.
يومها انضمّت الدعوى إلى ادّعاء النيابة العامة لدى المجلس العدلي ليصدر حكم بالحجز الاحتياطي على أموال المرفأ وإجبار 84 وكالة بحرية وشركة بالدفع لصندوق المحكمة. وهو ما تكامل مع القرار الذي أصدره المحقّق العدلي السابق في جريمة المرفأ، فادي صوان، بادّعائه على إدارة واستثمار المرفأ بيروت بناءً على نص المادة 210 من قانون العقوبات، المتعلقة بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، والتي من شأنها جعل إدارة واستثمار مرفأ بيروت - كشخص معنوي - مسؤولة جزائياً عن أعمال مديريها وأعضاء إدارتها وممثليها وعمالها، ومسؤولة أيضاً عن الإلزامات المدنية التي قد يُحكم بها لمصلحة المتضررين من شركات ملاحة بحرية وشركات تأمين وأصحاب سفن بحرية وأهالي ضحايا ومتضررين في المناطق المجاورة. ويُتوقع أن يفوق عدد المتضررين الـ700 شخص بما سيكبّد الخزينة عشرات ملايين الدولارات ويحوّل المرفأ إلى صندوق تعويضات ليس فقط لذوي ضحايا انفجار المرفأ، بل لأي شخص أو مؤسسة ترى نفسها في دائرة المتضررين.
يؤكد خلف لـ«الأخبار» أن موازنة إدارة المرفأ لا تدخل في موازنة الدولة العامة منذ عشرات السنين، وبالتالي ليست إدارة عامة كما تدّعي ولا تنطبق عليها موجبات المادة 3 من النظام العام للمؤسّسات العامة. فضلاً عن أن صرف الأموال في المرفأ لم يخضع يوماً للمحاسبة العمومية ولا للهيئات الرقابية بل كانت تودع هذه الأموال في حسابات ومصارف خاصة.
في المقابل، ترفض إدارة المرفأ كل ما سبق وتستند إلى قرارات سابقة تنقض اعتبارها كياناً مستقلاً، وأهمها قرار صادر عن شورى الدولة تحت الرقم 380/2015 يتضمن مراجعة مقدّمة بوجه كل من الدولة ولجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت. ونصَّ القرار على أنه في حال كانت هيئة القضايا هي التي تمثل مرفأ بيروت، فذلك يعني أنه لا يمكن اعتبار المرفأ كياناً يمثّل نفسه مثل مؤسّسة كهرباء لبنان (على سبيل المثال). وبما أنه لا يجوز إلقاء الحجز على أموال الدولة وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة بموجب المادة 860 من أصول المحاكمات المدنية، اعتُبر القرار غير قابل للتنفيذ. لكن ليس هناك اليوم من يحكم في هذا النزاع نتيجة تعطيل كل عمل الهيئات والأجهزة القضائية، وتعليق التحقيقات في انفجار المرفأ التي من المفترض أن تحدد في قرارها الظني المسؤوليات والتعويضات. وإلى ذلك الحين، تتكدّس الملايين في صندوق المحكمة التنفيذية من دون أن يُعرف مصيرها ومن سيستفيد منها.