التحقيقات أظهرت أن مشغّلي حدرج لم يكلّفوه بأي عملٍ أمني داخل لبنان، أو القيام بأعمال عادية على غرار بقيّة العُملاء الذين اعتُقلوا في العامين الماضيين، إلا أنّه «كفّى ووفى»، بعدما أفرغ في جلسات دردشة مع الرّجل الذي أوقع به، والذي ادّعى أنّ اسمه «الحاج سليم حاوي» من بلدة السلطانيّة، كلّ ما يعرفه عن حزب الله في لبنان وسوريا، وأعطاه أسماء مسؤولين في الحزب ومراكز خدمتهم. ولم يتعذّب «الحاج» كثيراً في استدراجه، بل أقنعه بأنه كان فيما مضى من كوادر الحزب، وصديقاً لوالد حدرج، إضافة إلى إتقانه العربيّة ومواظبته على الصلاة ولبسه خاتماً عليه آيات قرآنيّة. والأهم من كلّ ذلك، أن المُشغّل أغدق على حدرج الأموال ليصل مجموع ما تلقّاه إلى أكثر من 40 ألف دولار، إضافة إلى مساعدته في الحصول على «عشيقة» ما جعله «العميل الأغلى» بين أولئك الذين وقعوا في قبضة الأجهزة الأمنية اللبنانية في الفترة الأخيرة!
ورغم كلّ علامات الاستفهام حول علاقة حدرج بـ«الحاج سليم» أصر الموقوف على أنّ من حاول استدراجه كان عنصراً في ما سماه «جهاز الاتحاد الأوروبي»! وهي العبارة التي أعادها مراراً خلال استجوابه أمام «العسكرية»، لافتاً إلى أنّه لم يُدرك أنّه وقع في فخ «الموساد» إلا بعد توقيفه. و قال حدرج: «كيف أعمل للموساد بعدما قدّمت دمي من أجل وطني، وبعدما اغتالوا أبي وقتلوا أقاربي؟». وقال إنّ كلّ خطئه أنه سكت ولم يُخبر أحداً بما جرى معه «خوفاً على أهلي بعدما تعرضت للضرب والتعذيب والتهديد والابتزاز أثناء اختطافي في بلجيكا»، مضيفاً: «أنا أدفع ثمن سكوتي وليس ثمن عمالتي لأنني لم أكن عميلاً ولم أعطِ إلا المعلومات الشائعة».
كيف جنّد حدرج؟
تعود قصّة حدرج إلى عام 2020، عندما تلقّى اتصالاً من «الحاج سليم حاوي» الذي ادعّى أنه كان صديقاً لوالده. حدرج تواصل مع والدته وسألها عن الرجل، إلا أنها نفت معرفتها به، كما نفت أن تكون قد سمعت من زوجها باسمه. مع ذلك أوقع «الحاج» بحدرج بعدما سرد له الكثير من التفاصيل عن عمل والده، وصولاً إلى الحديث عن خلافات عائلية داخل الأسرة. بعض الذكريات التي لم يكن أحد على علم بها قطعت الشك باليقين بالنسبة إلى حدرج، قبل أن يُغريه بتقديم مساعدة مالية له باعتبار أن «لا مؤسسة تُعنى بأبناء الشهداء في الخارج»، وحجز له على نفقته رحلة سفر إلى تركيا، حيث كانت في انتظاره فتاة تدعى «حبيبة»، ادّعى «الحاج سليم» أنها ابنة صديق له. ولاحقاً تطورت علاقة حدرج بالفتاة، وأقاما علاقة جنسية. قبل أن تسهّل له الذهاب إلى أوروبا للحصول على جنسيّة. الشاب العشريني آنذاك، والذي قال إنه لم يكن قد أقام علاقة جنسية مع فتاة سابقاً، علق في شباك «حبيبة» التي كانت تتحدث الإنكليزية و«العربية المكسّرة». كذلك سافر حدرج إلى تنزانيا على حساب «الحاج سليم» الذي تدبّر له فرصتَي عمل، وكان يُغدق الأموال عليه بمعدل 2000 دولار شهرياً.
عام 2022، عاد حدرج في إجازة إلى لبنان، واتصل به جهاز أمن المقاومة لسؤاله عن أي تواصل يمكن أن يكون قد حصل بينه وبين الموساد، وما إذا كان حدث ما يثير ريبته، فنفى ولم يقرّ بعلاقته بـ«الحاج سليم» أو بالشكوك التي راودته حول معرفته بوالده!
عكّر إجازته شعوره بآلام في خاصرته ما استدعى تدخّلاً مباشراً من «الحاج سليم» الذي سهّل حصوله على تأشيرة دخول إلى بلجيكا بعدما كانت السفارة البلجيكية قد رفضت طلبه سابقاً.
حدرج الذي نفى وجود ما يثير الريبة في تصرفات «الحاج سليم»، بقي على موقفه برغم ضخامة الأموال التي كان يُغرقه بها. وبقي حدرج متمسكاً بأنّه «لم يشك بالحاج سليم يوماً»، وقال إن «القسم الأكبر من المساعدات المالية التي تلقاها منه وتخطّت 40 ألف دولار، هي بمثابة دين وبدل عن أعمالٍ تدبرها له الرجل في محل للحلويات وآخر للمكيفات».
40 ألف دولار وعشيقة وتسهيلات لم تجعل حدرج يرتاب في مشغله لحظة!
ما تغيّر، هو ما قاله حدرج، عن إنه تعرض لاختطاف من قبل «الحاج سليم»، حيث احتجزه في فيلا وأخضعه لاختبارين في كشف الكذب (نجح في أحدهما) وابتزّه بمقاطع مصوّرة تجمعه بـ«حبيبة» في أوضاع حميمية وهدّده بالتعرض بالأذى لأفراد عائلته. وقد عرض له صوراً حديثة مأخوذة من محاذاة منزله في الجنوب وتُظهر والدته وباقي أفراد أسرته، إلا أن كلّ ذلك لم يدفع حدرج إلى الشك بأن «الحاج سليم» من الموساد الإسرائيلي، بل أصر الرجل على أن ما قاله «الحاج سليم» بأنه ينتمي إلى مخابرات الاتحاد الأوروبي أقنعه. كما نفى ما كان قد قاله خلال استجوابه الأولي بأن «الحاج سليم» رحّب به في الفيلا قائلاً: «أنت الآن في أحضان الموساد الإسرائيلي»، وما أدلى به سابقاً حول خضوعه لدورات تدريبية على فك الشيفرات وإرسال الرسائل المُشفّرة والحصول على حساب مشفّر عبر جهاز «تابلت» أعطي له، لافتاً إلى أنّ الأجهزة التي يمتلكها صارت بحوزة الأجهزة الأمنية التي أثبتت الفحوصات التقنية أنها خالية من أي التباس أمني بل هي «نظيفة» على حد قوله، بما فيها جهاز «لابتوب» أعطاه إياه أحد المقربين من «الحاج سليم».