أثارت الجلسة النيابية التي خُصّصت لمناقشة الموازنة العامة، أخيراً، جملة مغالطات دستورية تصدّرها تصريح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عندما أكّد سلطته على الوزراء انطلاقاً من مسؤوليته عن تنفيذ السياسة العامة عطفاً على دراسةٍ أعدّها الأمين العام لمجلس الوزراء. وهذا ما لا نوافق عليه للأسباب الآتية:أولاً: تنقسم السلطة المركزية، في القانون الإداري، على الجهات الخاضعة لها إلى قسمين، الأول يظهر في سلطة الإدارة المركزية على الهيئات المركزية لناحية الحق في توجيه التعليمات لمرؤوسيها وفي إلغاء أو تعديل القرارات الصادرة عن هؤلاء، والثاني يشمل سلطة الإدارة المركزية على الهيئات اللامركزية بالموافقة أو الرفض، من دون إمكانية التعديل أو الحلول ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. وهذه السلطة، في هذا النموذج أو ذاك، تنبع من القوانين النافذة الّتي تحدّد، أصلاً، حدودها ومفاعيلها والجزاء المترتّب عن مخالفتها، في حين أن العلاقة بين رئيس الحكومة والوزراء تخرج عن هذا النطاق التسلسلي أو السلطوي، انطلاقاً من أن الدستور، الناظم للعلاقات بينهما، لم يشر، في الأساس، إلى إمكانية رئيس الحكومة في ترتيب المفاعيل الناجمة عن السلطة الإدارية بشقّيها المركزي واللامركزي، أي في إمكان توجيه التعليمات أو تعديل أو إلغاء أو قبول أو رفض قرارات الوزراء، ذلك أن الفقرة السابعة من المادة 64 من الدستور، المرتكز الطبيعي لتصريح ميقاتي، تنصّ على أنه «يتابع أعمال الإدارات والمؤسسات العامة وينسق بين الوزراء ويعطي التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل». وهو نصٌّ رسم في عباراته المسائل الآتية:
الأولى: التنسيق بين الوزراء يعني أن شخصاً يمارس إحدى الوظائف التقليدية في علم الإدارة، التي لا تخوّل، علمياً، إدارة المؤسسة، بل توحيد الجهود في سبيل تحقيق هدف معيّن. وبالتالي، التنسيق المقصود في الفقرة السابعة هو القيام بعمل معيّن تجاه الوزراء لتوحيد جهودهم أو برامجهم ضمن السياسة العامة الّتي يتخذها مجلس الوزراء، لا رئيس الوزراء بموجب المادة 65 من الدستور.
الثانية: التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل معطوفة على سلطة رئيس الحكومة المعطاة له في متابعة أعمال الإدارات والمؤسسات العامة انسجاماً مع الأحكام الواردة في فروع وموضوعات القانون العام، ولم يشأ المشرّع الدستوري إدراجها في العلاقة بين الوزراء ورئيس الحكومة، عدا أن التوجيهات معيّنة النطاق، وهو ضمان حسن سير العمل، حيث يعكس معياراً موضوعياً لا شخصياً، ومن شأنه أن يفسّر عملاً إدارياً أو ينبّه إليه، من دون أن يكون هذا التفسير أو التنبيه مصدراً لإخضاع جهة معيّنة لصاحب هذا التفسير أو ذاك.
الثالثة: إذا سلّمنا جدلاً بأن التوجيهات تطاول الوزراء، فإنّ الشورى الفرنسي، في قرار صادر عام 2002، أخضع التوجيهات الصادرة عن الإدارة لبعض الشروط كي تكون صحيحة ومشروعة:
1 - ألا يكون التوجيه مخالفاً لروحية القاعدة القانونية التي تحكمه، وهو شرطٌ يسلب المشروعية عن أيّ قرار آمر يصدره رئيس الحكومة تجاه الوزير، على اعتبار أنه يدخل ضمن السلطة الرئاسية بين الرئيس التسلسلي والمرؤوس لا بين رئيس الحكومة والوزير.
2 - لا يجوز أن تمنح الإدارة التوجيه صفة إلزامية، ما يُخرج التوجيهات عن القرارات الآمرة أو عن الأنظمة المؤتمن الوزير في لبنان على تطبيقها بحكم المادة 66 من الدستور.
ثانياً: الربط بين المسؤولية والسلطة، على حدّ تعبير ميقاتي، لا يبرّر الفكرة نفسها، باعتبار أن الفقرة الأولى من المادة 64 من الدستور أشارت إلى أن رئيس الحكومة هو المسؤول عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء. وهذه المسؤولية منحته، عملاً بالمادة ذاتها، امتيازات أو سلطات واسعة (رئاسة مجلس الوزراء، طرح سياسة الحكومة أمام مجلس النواب، توقيع معظم المراسيم، وضع جدول الأعمال، متابعة أعمال الإدارات العامة والتنسيق بين الوزراء...)، وبذلك يكون المشرّع الدستوريّ رتّب مفاعيل المسؤولية الملقاة على عاتق رئيس الحكومة من دون أن يعطي الأخير سلطة تسلسلية أو إدارية على الوزراء، وإن كان يحتكر، دستورياً، صلاحية التكلّم باسم الحكومة وفق السياسة العامة الموضوعة، بدليل أن الفقرة الثالثة من المادة 66 من الدستور نصّت على أنه «يتحمل الوزراء إجمالياً تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة ويتحملون إفرادياً تبعة أفعالهم الشخصية»، ما يعني أن الوزراء، شخصياً أو جماعياً، يتحمّلون المسؤولية أمام مجلس النواب، في حين أن السلطة الإدارية المركزية الّتي تمارس على الجهات الخاضعة لها تولي الأولى صلاحية رقابية على الثانية، بينما لا يمكن لرئيس الحكومة ممارسة الرقابة على الوزراء المسؤولين أمام مجلس النواب وحده.
ثالثاً: تنصّ الفقرة الثانية من المادة 66 من الدستور على أن «يتولى الوزراء إدارة مصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين وكل ما يتعلق بالأمور العائدة إلى إدارته وبما خصّ به». ويستشف من هذا النص، برأينا، نتيجتان:
الأولى: يؤكد هذا النص أن القانون والأنظمة مرجع وحيد، يجب أن يهتدي إليه الوزراء في إداراتهم للأمور العائدة إلى وزاراتهم، ويعطي الوزراء، في آنٍ، سلطة تنظيمية خاصة بهم بغية تسيير مصالح وأعمال وزاراتهم، الأمر الّذي يمكّن هؤلاء من سلطة تقدير اتخاذ القرارات الّتي يرونها مناسبة ما دام لا يحدّها أيّ نصّ قانوني أو تنظيمي.
الثانية: يدّل النص أعلاه على أن السلطة الإدارية أو التسلسلية لا تُفترض افتراضاً، بل تُستوحى من منطوق القانون والأنظمة، علاوةً على أن الأنظمة الإدارية، الوارد ذكرها في هذا النص، يصدرها، عادةً، مجلس الوزراء لا رئيس الحكومة، وبهذا تكون سلطة رئيس الحكومة على الوزراء غير قائمة إلا في إطار وتنظيم انعقاد جلسات مجلس الوزراء وما يترتب عنها، وفق ما جاء في المادة 8 من المرسوم الرقم 2552/1992 (يتولى الرئيس إدارة الجلسة فيعرض جدول الأعمال ويضبط إدارة الجلسات ويدير المناقشات).
وما يعزّز هذا الاعتقاد، هو أن الفقرة الثامنة من المادة 64 من الدستور تنصّ على أن «رئيس الحكومة يعقد جلسات عمل مع الجهات المعنية في الدولة بحضور الوزير المختص»، ما يؤكد استقلالية وسيادة الوزير على أعمال وزارته، حيث لا تقيّدها إلا النصوص الدستورية والقانونية وما يقع في منزلتها.
رابعاً: إنّ قاعدة التضامن الوزاري - كسمة في الأنظمة البرلمانية - وُجدت لإقامة التجانس أو التفاهم بين رئيس وأعضاء الحكومة حول مندرجات سياسة الحكومة المكرّسة في البيان الوزاري، حيث تعمّد المشرّع الدستوري، في الفقرة الثالثة من المادة 66، على احترام هذه القاعدة من خلال تحمّل الحكومة المسؤولية الجماعية أمام مجلس النواب، وجعل الوزير، استطراداً، مسؤولاً شخصياً عن أعمال وزارته في الفقرة الثالثة نفسها، أي في إخراج المسؤولية الشخصية للوزير عن قاعدة التضامن الوزاري الّتي جسّدت حكماً دستورياً بحقّ أيّ وزير يثبت تخلّفه أو تقاعسه عن أعماله الوزارية، وذلك في إقالته بمرسوم صادر عن ثلثي أعضاء الحكومة، أو في محاكمته أمام المجلس الأعلى سنداً إلى أحكام المادتين 71 و 80 من الدستور. وبالتالي ليس في مقدور رئيس الحكومة، بموجب هذه القاعدة، ممارسة القيمومة على الوزراء، لأنها تخرج عن الأحكام الّتي تصوّرها الدستور، وتُدخل، في الوقت نفسه، هذه الصلاحية الافتراضية في دائرة التعارض مع الفقرة الأولى من المادة 65 التي أولت مجلس الوزراء - كهيئة جماعية - صلاحية السهر على تنفيذ القوانين والأنظمة، بحيث من يستطيع أن يكون مؤتمناً على تنفيذ أمرٍ ما، يُمكنه أن يمنع أيّ فعل يخلّ به. وشاء المشرّع، في هذا المضمار، أن يُعطي الحكومة - لا رئيسها - مسؤولية الإقالة بمرسوم - وفق الأصول المنصوص عنها في الفقرة الرابعة من المادة 53 من الدستور - كحلٍّ لأيّ وزير أخرج نفسه من النطاق المسؤول عنه مجلس الوزراء حصراً.
بما تقدّم، يتبيّن لنا أن سلطة رئيس الحكومة على الوزراء محصورة في إدارة مداولاتهم في جلسات مجلس الوزراء، وبالتالي لا سلطة تسلسلية أو إدارية له على هؤلاء، كونها أُعطيت لأصحابها حفاظاً على وحدة الدولة. وهذه الوحدوية لا تتعارض مع استقلالية الوزراء في أعمالهم المقيّدة، أصلاً، في ما تقوله أحكام القانون والأنظمة النافذة.

* باحث دستوريّ وأستاذ جامعي في القانون العام.