منذ انتخب المطران بشارة الراعي بطريركاً، أضاف السياسيون والكنسيون اسم وليد غياض إلى قوائم الأسماء في هواتفهم الخلوية. بدا واضحاً أن المسؤول الإعلامي عن الصرح ليس مجرد موظف عادي. والده مسؤول عن هاتف البطريركية، والدته حلّت في موقع مدبّرة البطريركية محل الراهبات اللواتي توارثن هذه الوظيفة، فيما عُيّن شقيقه شربل، بداية، سائقاً للبطريرك ثم مسؤولاً أمنياً. وقد رمّمت البطريركية منزلاً داخل أسوار بكركي لوالدَي غياض وبنت منزلاً آخر لشقيقه.وطّد غياض، محامي الطلاق الأول في المحكمة الروحية، علاقته بمسؤول مكتب الرئيس سعد الحريري نادر الحريري، حتى بات يمكن مشاهدتهما يركضان معاً حول فيلا بورغيزي في إيطاليا عند السادسة والنصف صباحاً. وهو يفاجئ كل من يلتقيه بسعة اطلاعه: يحدّث المصرفي أنطون الصحناوي كخبير في القطاع المصرفي وتقلّبات البورصة. يذهل السيدة روز شويري بمعلوماته عن قطاع الإعلانات. ويوحي لرجل الأعمال جوزف فغالي بأنه هو، لا فغالي، المتخصص في زراعة العنب في رومانيا لصناعة النبيذ.

هؤلاء، ورجال أعمال عديدون غيرهم، باتوا أعز الأصدقاء. إلا أن اسم غياض ارتبط بما هو أهم من هذه التفاصيل الصغيرة: «قصر الأحلام». فالمحامي الشاب رفض السكن في طابق ثان فوق والديه وشقيقه. أراد بناء شيء آخر. حاول، بداية، تحقيق حلمه داخل أسوار بكركي، إلا أن عدة مطارنة والرابطة المارونية ورئيس جمعية الصناعيين السابق نعمة افرام اعترضوا، فبدأ البحث عن مكان آخر.
أين يذهب؟ هو لم يرث أرزاقاً عن أهله، حاله في ذلك من حال شباب كثيرين، كما أنه لا يملك ثمن أرض، ولا يحب القروض المصرفية. في طريقه من الصرح البطريركي وإليه، كان غياض يتأمل يومياً الجبل الأخضر الذي حمى البطريرك نصرالله صفير ما تبقى من أشجاره عبر مرسوم إداريّ حوّله إلى محمية يكاد يستحيل قطع شجرة واحدة منها. هناك، قرّر غياض أن يبني قصره. تجوّل في المحمية، حتى وقع على النقطة الأنسب: تحت «سيدة لبنان» مباشرة. لم يراجع أحداً هذه المرة؛ لا تملك ولا ترخيص ولا ملاحظات مطارنة أو غيره.
تكفّل سياسيان كسروانيان بالمطبخين فيما تقرر استيراد الرخام من إيطاليا
حضرت المناشير الكهربائية وبدأ قطع الأشجار. إلا أن رئيس بلدية غسطا زياد شلفون استنفر، وتتالت التسريبات الصحافية، ولم يعد في وسع رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان حمايته أكثر، فتدخل لدى الراعي لإيقاف المشروع. أُحبط غياض، لكنه لم ييأس.
لاحظ أن «سيدة لبنان» تتوسط جبلاً أخضر تحدّه بكركي من جهة الشرق، فبحث عن النقطة المقابلة لبكركي من جهة الغرب. هكذا يحيط الصرح البطريركي بحريصا من جهة، وقصر غياض بها من الجهة الأخرى. إنها المرة الثالثة، ويفترض أن تكون ثابتة. عند التاسعة والنصف من صباح الخميس، اصطحب غياض كلاً من البطريرك بشارة الراعي والمونسنيور جوزيف البواري ومدير عام التنظيم المدني الياس الطويل لتفقّد «أرض غياض». عند أطراف المحمية، تؤجر البطريركية مزارعاً كسروانياً أرضاً صغيرة يقيم فيها مزرعة لتربية الخنازير، تحتها ثمة خزان مياه تشرب جونية منه. بينهما، قرر غياض أن الأرض أرضه. بارك الكاردينال الراعي الأرض. هنّأه المونسنيور البواري، وهو القيّم العام على أملاك البطريركية المارونية. وأكد الطويل أن الأرض تقع فعلاً خارج النطاق الرسمي لمحمية حريصا الطبيعية. ها هو غياض يستعيد لونه الطبيعي، فرحاً بإيجاده أخيراً الأرض.
لكن ليلتها لم ينم غياض. القوانين الجديدة تمنع تأجير البطريركية الأرض أكثر من تسعة عشر عاماً، وعليه قد يذهب تعبه كله هدراً في حال تغير البطريرك أو تقرر فسخ العقد. لا بدّ أن يشتريها إذاً. تعاميم الفاتيكان تمنع بيع الكنيسة أملاكها أياً كانت الذريعة، بما في ذلك تقدير البطريرك لغياض. الحل القانوني الوحيد هو مقايضة الأرض بأرض أخرى. بدأ هنا فصل جديد. بين أراضي «بنك المدينة» التي وضع مصرف لبنان يده عليها، ثمة واحدة تبلغ مساحتها 20 ألف متر في قعر واد في بلدة المعيصرة في فتوح كسروان. لا يتجاوز سعر المتر هناك 5 دولارات. وعليه ينشط رجل الأعمال فادي رومانوس، حرصاً منه على سلامة غياض السكنية، بين الصرح البطريركي ومصرف لبنان للإسراع في إنجاز المعاملات وتسليم غياض أرضه في الوادي. وهكذا سيتسنى للمسؤول الإعلامي مقايضة البطريركية المارونية: يعطيها أرضه البعيدة التي لا يتجاوز سعرها مئة ألف دولار، ويأخذ أرض البطريركية المحاطة بالغابات والمطلة على خليج جونية والتي يتجاوز سعرها بحسب أحد الخبراء العقاريين ملايين عدة من الدولارات.
اللافت أن غياض لم ينتظر تملك الأرض رسمياً ليبدأ العمل في قصره. فطريق المزارع الصغير وُسّع أكثر من ثمانية أمتار، مرتكباً باقترابه من خزان المياه عدة مخالفات. يقلع شجرة من هنا، فيزرع بدلاً منها مدير عام وزارة الزراعة لويس لحود، المدين بعودته إلى موقعه لضغوط البطريركية المارونية على الرئيس نجيب ميقاتي. يتسابق اثنان من رؤساء بلديات المتن الشمالي إلى وضع خبراتهما الهندسية بتصرف القصر. وها هو أحد رجال الأعمال يهرع إلى أطراف شننعير محملاً بالباطون. تحيط بالقصر وطرقاته جدران دعم من الحجارة الضخمة. ترتفع أعمدة الهندسة الاستثنائية: طابق للاستقبالات الشعبية، طابق للمعيشة وآخر للنوم. يمنع العمال التصوير من دون إذن. ينحت المهندس مسبحاً مماثلاً لمسابح الفنادق اليونانية، تظنه بحكم الألاعيب الهندسية عائماً في البحر، وإلى جواره جاكوزي صغير. يحرص المهندس جان بيار جعارة على ألا يشوب المنظر الخرافي من القصر أي شائبة. يموضع القصر بحيث لا يظهر أي مبنى بينه وبين البحر كيفما نظرت. يقول غياض لبعض المقربين منه إن الطابق الأخير مخصص لتقاعد البطريرك بعد عمر طويل، مبرراً كل ما يفعله بحرصه الشديد على استمتاع البطريرك بشيخوخته ـ سكنياً أقله.
العمل في الورشة ـ كما عاينته «الأخبار» أمس ـ يجري بسرعة كبيرة. وبعدما شارف على نهايته، أهدى رجل أعمال (وسياسة) من كسروان غياض مطبخاً إيطالياً، بكلفة تتجاوز ستين ألف دولار. واهتم رجل أعمال سياسيّ ثانٍ بالمطبخ الآخر. ولم يسعَ غياض إلى إلزام سياسيّ كسروانيّ ثالث بخفض حقيقي لأسعار الرخام بعدما شعر بممانعته، فقرر استيراد الرخام مباشرة من إيطاليا ليكون واثقاً مما يضعه في قصره مئة في المئة. ويُنتظر فور عودة غياض من الفاتيكان أن يبدأ مزاد الأثاث، وخصوصاً أن المرشحين المستقلين لرئاسة الجمهورية يزدادون سخاءً وكرماً، وجزء لا بأس به من أصدقاء هؤلاء تجار مفروشات.