بعد أكثر من عام على بدء الحراك العربي، وتصدي فروع حركة الإخوان المسلمين لدور ريادي فيه، ينظر الإخوان اليوم إلى لبنان، حيث لا تزال الجماعة الإسلامية، بحسب رأي الحركة الأم، تتخذ موقفاً معتدلاً أكثر مما يجب. أما إذا أردنا استخدام لغة الأعمال، فإن هناك طلباً على الجماعة الإسلامية، لكنها لا تقدم العرض الكافي لإشباع حاجة السوق. لو كانت حركة الإخوان المسلمين مركزية في قراراتها، لكنّا اليوم في لبنان نشهد نشوء حركة «عدالة وتنمية» محلية، من رحم الجماعة، تطالب بإسقاط النظام في سوريا ليلاً ونهاراً، وتعمل على رفد الثورة السورية بكل ما يمكن أن تطلبه من خطوط الإمداد عبر الحديقة الخلفية لسوريا.
إلا أن الحركة الأم غير مركزية، والجماعة الإسلامية التي تعرف تعقيدات الوضع المحلي سارت بين النقاط حتى الأمس القريب. أما اليوم، فهناك في شمال لبنان من يؤكد أن وفداً قيادياً من الجماعة سيغادر البلاد قريباً إلى قطر، حيث سيعقد «الاتفاق الأخير» بكل تفاصيله، بغية انضمام جماعة لبنان إلى السياق الإخواني العام.
لا يمكن بعد اليوم أن يطمح قياديو حزب الله إلى عقد تحالف متين، أو عميق، مع الجماعة. المرحلة تغيرت، تماماً كما تغيرت بالنسبة إلى حركة حماس. صار المدّ السُّني الذي يغمر الشارع العربي من أقصاه إلى أقصاه بحاجة إلى قيادة سياسية، وما دام الإخوان منتشرين في هذا الشارع، فإن الفراغ يستدعيهم، كما تدفعهم الدول الكبرى، وعواصم القرار، إلى اللحاق بالأرض التي تمور وتتحرك تحت الأنظمة.
بعيداً من الأسباب الميدانية والمحلية الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية للثورات القائمة في العالم العربي، في الولايات المتحدة والعواصم الغربية من يعتقد أنه آن الأوان لاستبدال احتلال العراق وأفغانستان بأدوات محلية، ومواجهة المدّ الشيعي بمدّ من نوع آخر. وبدل عصا القاعدة يمكن استخدام ربطة عنق الإخوان، وحين تتعسّر، تُوظَّف عصا القاعدة بيد عمرو أو زيد، إلى أن يستقر الأمر في مناطق النزاع، فيأكل الثوار بعضهم بعضاً، ويمسك بالحكمَ الأقدرُ على ذلك.
وفي الصراع الدولي الدائر، هناك محاولة مستميتة لسحب الملف الفلسطيني من الأيدي الإيرانية، وإن كان من المستحيل ابتزاز حزب الله أو إغراؤه، بعد تجارب أميركية ومحلية طويلة في هذا الشأن، فإن مشاغلته وإغراقه في أوحال النزاعات المذهبية ممكنان دائماً كما أثبتت التجربة.
أما حماس فشأن آخر. يمكن دائماً الدخول بين شقوق الجسد الحمساوي الكبير، وممارسة الضغط على هذا وإغراء ذاك، ودفع خالد مشعل إلى زاوية يقول حين يجد نفسه فيها كلاماً في المجالس المغلقة، فيعمد أهل البيت إلى تسريبها للإعلام لمنعه من التراجع عنها، كنهائية قراره بالتنحي.
مع حماس يمكن المفاوضة على ميزانية المساعدات التي تصلها من إيران. بعد أعوام من اتهامها بالتشيّع، ونعتها بالتبعية لإيران، والبحث في جباه قادتها عن آثار السجدة الشيعية، وبطشها بنوازع التطرف، ولو كانت من إخوة، وعائلات غزاوية كبيرة، ها هي اليوم حماس تتخلى وتفقد (في الآن نفسه) المساعدات الإيرانية التي تقدر بنحو 25 مليون دولار شهرياً، وتبدأ الرضوخ للعروض الخليجية.
قطر أولاً كانت قد احتضنت حماس إلى الدرجة الأقصى. لولا الصواريخ الإيرانية في غزة والسلاح، لكانت قطر قد تحمست لضم حماس إلى حديقة الإخوان في الدوحة أكثر مما فعلت مع الشيخ القرضاوي. رغم ذلك، لا تقطع الدوحة مع أي طرف، فكيف مع جهة إخوانية؟ والمملكة العربية السعودية التي كانت تفضل دائماً أبو مازن وسلطته لم تقطع مع حماس، وهي، وإن ابتعدت عن التدخل المباشر في النزاع في سوريا، وتجنبت تقديم عروض إلى حماس، فإنها في الأسابيع الأخيرة عادت ولحقت بشقيقتها الصغرى قطر، وأبدت همة فائقة بالنسبة إلى مملكة مترهلة، سواء في التدخل السياسي في سوريا، أو في بذل الجهد تجاه «تقبل حماس وسائر الإخوان»، بعد أن كانت تراهن على السلفية وحدها في مواجهة الإخوان، لملء فراغ الأنظمة المتهاوية.
المطلوب اليوم حصر تمويل حماس بالمملكة وقطر وفاعلي الخير من الإخوة في عرب الاعتدال، مقابل أن «تترك القضية الفلسطينية للإخوة الفلسطينيين»، بحسب تعبيرات عربية وإخوانية كثيرة، ربما كان أهمها ما قاله زعيم حزب النهضة الإسلامي التونسي راشد الغنوشي ورئيس الوزراء المغربي عبد الإله بنكيران زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي لمندوب إذاعة «صوت إسرائيل» في المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في دافوس في سويسرا، أن على الفلسطينيين أن يقرروا بأنفسهم طبيعة علاقاتهم مع إسرائيل، وتأكيدهما أن الحركات الإسلامية ستتصرف بموجب القرار الفلسطيني.
في كثير من المواضع، ما كان شقوقاً تتسرب منها الرياح العربية والغربية إلى داخل جسم حماس أصبح اليوم أكثر من ذلك. باتت حماس بعيدة عملياً عن سوريا، وأفرغت مكاتبها، وبقي هناك من ندر من الكوادر، بعد أن كانت دمشق عاصمة حماس الخارج. وأبدت الحركة حسن نياتها عبر تكسير أيدي أفراد مجموعة شيعية وأرجلهم في غزة، كانت تحتفل بذكرى أربعين الحسين، مبعدة شبح الصبغة الإيرانية عن نفسها.
هبّت حماس أبعد من ذلك، حين عرضت الدمج مع حركة الجهاد الإسلامي. ولمن لا يعلم، إن حركة الجهاد هي الحركة الأكثر إثارة للقلق الإسرائيلي؛ لكون جهدها منصباً بالكامل على القتال، ولا تعبأ بالسلطة، وهي الأقرب إلى إيران؛ لكونها تتلقى منها مساعدات مالية وتقنية وخبرات واسعة. بينما حماس تتوزع ما بين القتال والسياسة والسلطة والمال العام. وبالتالي، إن عرض الاندماج يمكن فهمه، ببساطة، بأنه عرض لإذابة حركة الجهاد إذا ما مثّلت عائقاً في يوم من الأيام أمام انضمام حماس إلى السياق العام لحركة الإخوان في المنطقة العربية.
أما لبنان، فهو شأن آخر، لكن ليس ببعيد عن السياق السالف. حين عاد وليد جنبلاط من زيارته القطرية، عمّم على عدد محدود من كوادره أن الحزب التقدمي يجب ألا يقف بوجه المدّ السُّني الصاعد، وأن الحزب الاشتراكي بطبيعته يجب أن يتفاعل إيجاباً مع قرار الأكثرية. فإن اختارت الأخيرة الإخوان للحكم، فليكن؛ «فالمرحلة مرحلة الأكثريات لا الأقليات».
كانت الفترة الفاصلة بين نهاية زيارة جنبلاط القطرية وبداية زيارته الروسية بالكاد كافية ليرسل تعميماً مشابهاً، والغريب أن التعميم لم يلحظ حلفاء الأمس من تيار المستقبل، بل كان موجهاً إلى الإخوان تحديداً.
تيار المستقبل الذي بالكاد يسمع إعلامه في هذه الأيام يتحدث عن أي أمر غير الثورة السورية، بات موضوعاً في الاستيداع، هناك من كسر ساق تيار المستقبل، وتركه عاجزاً يعاني آلامه في المستشفى، ووجّه نظره إلى فريق آخر.
لا بأس في هذه الأثناء التي يرقد فيها التيار في المستشفى منتظراً ساعة الفرج البعيدة، من أن يشغل الساحة الفارغة بعض الهواة، وببعض التنافس، فليكن بعض الدعاة السلفيين من المتمولين من المملكة، وآخرون من قطر، متنافسين بانتظار الاتفاق مع الجهة المرشحة على صيغة واضحة، ولا بأس في التلويح بهذه المجموعات السلفية الصغيرة بوجه هذه الفئة التي يجري التفاوض معها لتعبئة الفراغ بأكبر قدر من الإمكان في المرحلة المقبلة.
وإذا ما تمّم الله الأمور على خير، يفترض بالجماعة، بحسب من يدير الأمور في المنطقة، أداء دور مزدوج، أولاً في دعم الثورة السورية عبر الحدود اللبنانية، ورفع مستوى تقديماتها للاجئين السوريين عبر الحدود، وربما بالغ البعض وقال بأن تستعد أيضاً لإيجاد مناطق آمنة على الحدود بعد الفوضى الأمنية القائمة حالياً، وخصوصاً في منطقة الشمال اللبناني.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فعليها أن تعمل على سحب شرعية المقاومة من حزب الله، وإن كان الكل يعلم أن ذلك سيخلق نزاعاً يساوي إسقاط النظام السوري ويزيد عنه بقليل. إلا أن في أجهزة الدولة اللبنانية وتيار المستقبل المكسور الساق والجمعيات السلفية، من يمكنه المساهمة في ذلك، إن لم يكن قد بدأ بالتمهيد له من اليوم.



منطق الإخوان المتماسك

في الجزء الآخر من الصورة، يمكن دائماً سماع الإخوان، وخصوصاً من حركة حماس، يدافعون عن أنفسهم بقوة ومنطق متماسك؛ فهم أولاً يؤكدون أن شيئاً لم يتغير لدى قيادة حماس، وأن الحركة جسم واحد، ولا صحة لمن يقول بأن هناك جناحاً سورياً وآخر مصرياً أو قطرياً أو سعودياً. يقول هؤلاء إن «أخطاء» الإخوان في تونس وكلامهم للإذاعة الإسرائيلية «يعنيهم ولا يعنينا»، وموقف حماس استراتيجي ولن تبدله اليوم لأسباب تكتيكية.
ويضيف هؤلاء أن زيارة خالد مشعل لعمّان أُعدّ لها منذ شهر رمضان الماضي، وليست موجهة ضد أي طرف عربي ولا ضد محمود عباس. أما تخفيف الوجود في سوريا، فهو قائم منذ فترة طويلة نسبياً، وخصوصاً أن التنقل ليس سهلاً حالياً في سوريا. لكن لا أحد يريد التخلي عن دمشق، قبل أن يضيفوا: «لكن حل الأزمة السورية ليس عند حماس، بل الحل عند غيرنا».
ويقول الإخوان في لبنان وقياديون في حماس، بالنبرة نفسها تقريباً، إن كل الأطراف تتفاوض مع الأميركيين، والأميركيون يتفاوضون مع كل الأطراف في المنطقة، وجزء من هذه المفاوضات يتناول مرحلة «ما بعد النظام، ونحن لسنا شركاء في هذه المفاوضات، لكن إذا التقت حماس (أو حركة الإخوان) بوفد غربي يُعَدّ الأمر بمثابة خيانة وتخلٍّ عن ثوابت، ونُصوّر كأننا ارتكبنا المحرمات».