إذا كان تيّار المستقبل قد حسم خياراته في التعاطي مع ملف دار الفتوى، واعتبر أن القضيّة بينه وبين مفتي الجمهوريّة الشيخ محمّد رشيد قباني باتت معركة كسر أحدهما للآخر، فما هو موقع القوى السنيّة الأخرى من التعديلات المطروحة للنظام الداخلي لدار الفتوى ومن المفتي الشيخ محمد رشيد قباني؟ لا يُمكن تقسيم مواقف القوى السياسيّة من دار الفتوى بحسب الموقف السياسي العام. فعلى صعيد رئيس الحكومة الحالي، والرؤساء السابقين، تتفاوت المواقف، وأحياناً لأسباب شخصيّة. فالرئيس نجيب ميقاتي يسير بسياسة «النأي بالنفس» في دار الفتوى، رغم أن بعض القوى السياسيّة القريبة من فريق 14 آذار تقول إن موقفه هذا يشوبه العديد من محطّات التأييد للرئيس فؤاد السنيورة، من دون الإعلان عن ذلك.
لكن لميقاتي قراءة أخرى. يرى مقربون منه أن الانقسام في الطائفة السنيّة موجود، بين فريق يُريد تغيير المفتي، وآخر يُريد حمايته، «فما الذي يُمكن أن يؤديه ميقاتي إذا ساند فريقاً دون آخر». بمعنى آخر، يعتقد هؤلاء أن مساندة ميقاتي لفريق على آخر لن تؤدّي إلى حسم الأمور، بل إلى توسيع الانقسام من دون أن يكون أحد قادراً على «ضبضبة» الوضع. أمّا إذا بقي ميقاتي محايداً، فهو سيكون قادراً على «لملمة» الأمور عند وصولها إلى مستويات غير محمودة. يعطي المقربون من ميقاتي مثالاً على ذلك، «يوم دعا المفتي إلى انتخابات للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وتوتر تيّار المستقبل الذي كانت نيّته إعلان مجلس شرعي آخر، الأمر الذي كان سيؤدي إلى انقسام مؤذٍ، فاستطاع ميقاتي بعلاقته مع الطرفين أن يُهدئ الأمور، ويطرح مبادرةً تؤدي إلى تشكيل لجنة» يعتقد المقربون من ميقاتي أنها قادرة على القيام بدورها.
في المقابل، هناك من ينتقد ميقاتي ويُقدّم قراءةً أخرى. يعتقد أصحاب هذه الوجهة أن قلب ميقاتي إلى جانب السنيورة، لكنّه لن يحسم خياره قبل أن تتضّح صورة الرابح، فيكون حليفه. وللدلالة على هذا الكلام، ينقل هؤلاء عن ميقاتي قوله في عدد من الجلسات مع قوى سياسيّة تُعارض المفتي إنه مقتنع بضرورة تغيير قباني.
الموقف الحاسم في هذا المجال هو في نظرة ميقاتي إلى التعديلات المطروحة، إذ يقول بعض القريبين من رئيس الحكومة إنه يرفض ضرب موقع مفتي الجمهوريّة، وإنه لا يوافق على التعديلات المطروحة في هذا السياق، رغم أن آخرين يقولون إن ميقاتي شريك في إعداد هذه التعديلات.
في ظلّ نظريّة «نأي» ميقاتي بنفسه، فإن الرئيس عمر كرامي، حاسم في موقفه بهذا الشأن. يُكرر كرامي دائماً أن على المفتي التنحي، بسبب الملفات المالية في دار الفتوى. لا يُغيّر كرامي من موقفه هذا، وفي حقيقة الأمر، لا يزال رئيس الحكومة الأسبق، عند موقفه السلبي من المفتي بسبب استقباله رئيس الهيئة التنفيذيّة في القوات اللبنانيّة سمير جعجع مهنئاً في أحد الأعياد الإسلاميّة. ورغم أنه في مرحلة ما قبل تولي ميقاتي رئاسة الحكومة، اشتغلت بعض الوساطات والوسطاء بين كرامي والمفتي، إلّا أن موقف «الأفندي» عاد إلى التشدّد في المرحلة الأخيرة. وهو كان الحليف الأوّل للرئيس السنيورة في الاجتماع الأخير لرؤساء الحكومة في السرايا الكبيرة.
أمّا الرئيس سليم الحصّ، فهو الوحيد الذي يرفض التعرّض للمفتي. فبعدما كان الحصّ أوّل من طالب المفتي بتوضيح الملفات المالية الملتبسة أو الاستقالة (في بيان عبر الإعلام). إلّا أن الحص غيّر موقفه، بعدما اطلع من المفتي على الأمور، كما أنه يرفض ضرب موقع الإفتاء، لذلك فهو الذي وقف موقف الرافض بالمطلق لهجوم السنيورة على المفتي. وقد تُرجم هذا الأمر بتواصل مستمر بين المفتي والحصّ.
هذا على صعيد رؤساء الحكومة، أمّا على صعيد الجمعيات الإسلاميّة، أو الأحزاب الإسلاميّة، فإن أبرز قوتين منها تقفان موقف النقيض. جمعيّة المشاريع الخيريّة تُساند المفتي بالكامل، رغم العلاقة التي كانت متوترة في مرحلة بين الجانبين، والجماعة الإسلاميّة تنتقده بأشرس العبارات.
المسؤول الإعلامي في جمعيّة المشاريع الإسلاميّة، عبد القادر الفاكهاني، يشرح الأمر بوضوح تام: إذا كان هناك من ملف مالي، فإن تيّار المستقبل هو الذي وضع هذا الملف جانباً، إلى أن اختلف سياسياً مع المفتي، فقرر استعماله. لذلك فإن فاكهاني يعتقد أن المستقبل يُريد ابتزاز المفتي، «وهذا أمر غير مقبول». ويؤكّد فاكهاني أن دار الفتوى دار الجميع، لذلك ممنوع أن يتم التعاطي معها كطرف سياسي، أو كجهة ضعيفة يتم ابتزازها.
وعند سؤال الفاكهاني عن قصة المساجد التي كان يُفترض أن تُسلّم إلى دار الفتوى، يُشير إلى أن الرئيس السنيورة تولّى الوساطة عبر المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، يوم كان السنيورة رئيساً للحكومة. وتم الاتفاق على موعد لتسليم المساجد الثلاثة، إلّا أن دار الفتوى أبلغت جمعية المشاريع بأنها لم تعد تُريد تسلّم هذه المساجد. وبالتالي، فإن هناك من قرّر في تلك الفترة، أي في عام 2007، عدم السماح بإصلاح العلاقة بين الجانبين. لكنها أُصلحت اليوم.
بدورها، الجماعة الإسلاميّة، تقول على لسان المسؤول فيها، عمر المصري، إنها لا يُمكن أن تقول كل ما يدور في ذهنها حول موضوع دار الفتوى. هي تملك الكثير من الشكوى. تعترض على استقبال المفتي للسفير السوري علي عبد الكريم علي، و«تحديداً بعد مجزرة حمص». كما توافق الجماعة على جزء لا بأس به من تعديلات السنيورة، لكنّها تعترض على بعض هذه التعديلات، وتحديداً الجزء المتعلّق بالهيئة الناخبة في دار الفتوى، وجعل غالبيّة هذه الهيئة من غير رجال الدين.
في مكان آخر، يقف الوزير السابق عبد الرحيم مراد. المفتي ومراد اللذان جمعتهما علاقة عائليّة سابقاً، لا يزال كلّ منهما على موقفه، ينتظر خطوةً من الآخر، أو حتى يرفض أن يخطو الآخر صوبه. لكن هناك عدّة وساطات لتقريب وجهات النظر بين الطرفين اللذين تربطهما علاقة جيرة أيضاً في تلة الخياط.
أمّا على صعيد رجال الدين، فإن مفتي طرابلس والشمال، الشيخ مالك الشعار، يتصدر فريق رجال الدين الذين يُواجهون قباني، وتحركّه في هذا المجال رغبته في تولي موقع الإفتاء الأول، وهو يُردّد بأنه مستعد للتوقيع على جميع التعديلات التي يُريدها السنيورة. إلّا أن هناك حراكاً جديداً بين رجال الدين للالتفاف حول المفتي، بدأ في بيروت، وينتقل إلى المناطق تدريجاً.