على نحو كهذا، تقترب الأزمة السورية من الاختبار الذي شهده لبنان، في أول أشهر حربه الطويلة، وعُرف حينذاك بـ«حرب السنتين»، التي شهدت كمّاً كبيراً من الوساطات العربية والدولية لم يغب عنها الفاتيكان مع الكاردينال باولو برتولي، ثم المونسنيور ماريو بريني، والفرنسيون مع موريس كوف دومورفيل ثم جورج غورس، والأميركيون مع دين براون، والجامعة العربية مع أمينها العام محمود رياض، فضلاً عن الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم.
لم يغب كذلك الليبيون مع عبد السلام جلود، ولا اختفى المصريون والعراقيون والسعوديون والكويتيون، الذين اختبأوا وراء سفرائهم في بيروت. كانت الوساطة الأم والأقوى لسوريا على مرّ هاتين السنتين، ثم في ما بعد، ودارت معها ومن حولها الوساطات الأخرى التي صنعت جولات عدة لوقف النار، واستقراراً جزئياً وجهوداً لحوار وطني قبل انهيارها كلها مرة بعد أخرى.
كذلك شهدت الأزمة السورية، ولا تزال، بعد أسابيع من اندلاعها وساطات انضمت إليها ـــــ شأن ما خبره لبنان ـــــ الدول التي وجدت نفسها معنية بما يجري على أرضها. تحضّ على الإصلاح والحوار، وفي الوقت نفسه تمدّ الأفرقاء بالمال والتحريض تارة، والسلاح والمسلحين طوراً، كما فعل السوريون والعراقيون والجزائريون والليبيون والسعوديون والكويتيون هنا. أضف إليهم جميعاً إسرائيل. تفعل ذلك في سوريا اليوم تركيا وقطر والسعودية وإيران، وبأدوار أقل العراق والأردن وبعض اللبنانيين. ويجاريهم الفرنسيون والأميركيون عندما كان السفيران في دمشق يحرّضان على النظام ويوفران معلومات وتجهيزات وأنظمة اتصال للمعارضة، فيما يوفّر الروس للنظام الخرائط والخبراء والصور الجوّية والأسلحة والذخائر والغطاء الضامن لاستمراره.
ومع أن المجتمع الدولي يتحرّك حيال سوريا بدينامية وجهود استثنائية لم تدركهما بدايات الحرب اللبنانية، إلا أن أحداً لا يبدو مستعجلاً إنجاز تسوية سياسية في سوريا. وهكذا يذهبون جميعاً بسوريا، بعدما ذهبوا بلبنان قبل أكثر من ثلاثة عقود، من جولة إلى أخرى لا يخسر فيها أحد، لكن أحداً لا يربح كذلك. كرّست السنتان الأوليان من الحرب اللبنانية توازناً داخلياً قوياً وصلباً تجاوز مقدرة الأفرقاء المحليين على تخريبه، وأنشأتا خطوط تماس أمنية بين المناطق، وأبقتا حطام الدولة اللبنانية قائماً بعدما شجعتا على تفكيك الجيش بانشقاق جيش لبنان العربي عنه، ثم جيوش صغيرة تشبهه.
كذلك حال سوريا بعد سنة من انفجارها. لم يربح أحد. لا النظام سقط، ولا المعارضة اضمحلت. هزّ الجيشَ انشقاقٌ لم يمثل تهديداً جدّياً له كما حصل في لبنان، لكنه فتح الباب على هذا التهديد من دون أن يجرّده من مقدرته على منع نشوء خطوط تماس أمنية في سوريا. تسليم متبادل بالبقاء بين النظام ومعارضيه في الداخل والخارج، اغتيالات وتفجيرات وتقويض مقوّمات الدولة، ونزاعات مذهبية.
تقترب سوريا اليوم من أن تشبه لبنان منتصف السبعينيات.
على أن الجولة الأولى من اضطرابات سوريا ترتكز على بضعة معطيات، منها:
1 ــ أن أياً من النظام والمعارضة، وكذلك العرب والغرب، لا يريد جهاراً تعطيل مهمة أنان، ولا التجرؤ على عرقلة تنفيذها. إلا أن كلاً منهم يتهم الآخر بتعريضها للفشل. يُطري الروس والصينيون التزام الرئيس السوري وقف النار واستعداده للحوار ودعم بقائه في السلطة، بينما يشكك الفرنسيون والأميركيون في صمود الهدنة وصدقية الأسد. في المقابل تنظر دمشق إلى الجولة الأولى على أنها فرصة لالتقاط الأنفاس وكسب مزيد من الوقت سيحمل الفرنسيين، ثم الأميركيين، على الانصراف إلى انتخاباتهما الرئاسية في الأشهر المقبلة. لا يخفي المسؤولون السوريون ارتياحهم إلى تراخي الحدّة التي كانت قد طبعت في الأشهر المنصرمة مواقف ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وإسبانيا، فيما تتمسّك باريس بالبقاء رأس حربة المواجهة مع الأسد. ويعطفون ارتياحهم أيضاً على تسليط الإعلام الغربي الضوء على انتهاكات المعارضة المسلحة وممارستها القتل والعنف والاغتيالات.
2 ــ يظلّ وقف النار هشّاً من دون اقترانه بتسوية سياسية بين طرفي النزاع، وفيما يتحدّث النظام عن برنامجه للتسوية يبدأ بالانتخابات النيابية الشهر المقبل، ويُستكمل بانبثاق مجلس للشعب يضع قوانين الإصلاح، بما فيها الدستور الجديد، موضع التنفيذ، تختلف معارضتا الداخل والخارج على مقاربة المرحلة التالية رغم اجتماعهما على ضرورة إسقاط النظام القائم ورحيل الأسد وإخراج حزب البعث تماماً من السلطة. يُوافق فريق الداخل على الحوار مع النظام توطئة لترحيله. ويصرّ فريق الخارج على إطاحة الأسد التي تسبق الحوار الوطني رغم موافقته على خطة أنان بالجلوس إلى طاولة يرأسها الرئيس السوري وتُعقد تحت سقف نظامه. يتمسّك أيضاً بتدخّل عسكري خارجي يستعجل التسوية السياسية، ينبذه فريق الداخل.
في الجانب الآخر، ناط الأسد بمعاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف ومستشارته السياسية والإعلامية الوزيرة بثينة شعبان إجراء اتصالات بشخصيات معارضة، والتقيا عدداً منها في الأسابيع الأخيرة تحضيراً للحوار الوطني.
3 ــ مع أن طرفي النزاع أرغما على وقف النار، إلا أن النظام ينظر إلى خطة أنان على أنها أقرب إلى مصلحته باعترافها ببقاء الأسد على رأس السلطة، وبرفض أنان توجيه خطته نحو هدف مغاير لها هو عزل الرئيس السوري. وإذ منحت الخطة المعارضة حقّ التظاهر، حرمتها حقّاً أكثر فعالية هو تسلّحها في ظلّ انقسام عربي وغربي على هذا الهدف.
4 ــ من دون أن يتمكّن من تدميرها، أضعف الأسد المعارضة في الشارع عندما فرض أمراً واقعاً أمنياً ثابر عليه في شباط وآذار، قبل موافقته على خطة أنان في 27 آذار، وهو منع نشوء خطوط تماس أمنية بين المدن والقرى، ونقل المهمة المتوقعة لفريق المراقبين الدوليين من حال إلى أخرى.
بعدما سعت المعارضة المسلحة إبان مهمة المراقبين العرب إلى الاستيلاء على مدن وقرى فور دخول هؤلاء إليها، بعد خروج الجيش منها، وفرض مناطق مغلقة في وجه النظام من خلال خطوط تماس تمكّنها كذلك من ربط حمص بحماه، وحماه بإدلب وصولاً إلى الساحل، ترتكز مهمة المراقبين الدوليين على دور أكثر تقييداً هو التحقّق من وقف النار وضمان الاستقرار، بعدما أعاد الجيش انتشاره في المناطق التي سلخها المسلحون عنه. لم يعد الجيش السوري الحرّ يملك سوى قاعدة واحدة له هي مخيّمات تجمّعه وراء الحدود التركية، وبات على المعارضة المسلحة تنفيذ هجمات صغيرة متنقلة ضد الجيش قبل الاختباء.
مثّل منع نشوء خطوط التماس مصدراً رئيسياً لموافقة الرئيس السوري على خطة أنان أولاً، وتنظيماً لمهمة المراقبين الدوليين لا تتكرّر معها تجربة أسلافهم العرب.