منذ أيام، علّقت شابة سورية تحت صورة راعي ماعز عرسالي على موقع فايسبوك: كم هو طريف. لا بد انه من فليطة. لم يكن التعليق ساذجاً. ربما استندت هي إلى لباسه او محياه. ولكن في الواقع، الرجل من آل فليطي، وهو عرسالي. وفليطة هي قرية سورية من القرى التي تحاذي عرسال. لا فرق بين وجهه الواقف في شمس سهل البقاع ووجه ابن فليطة. وربما كان جدهما واحداً. هي عرسال، بحجرها وبشرها وشجرها، بلدة «سورية» بامتياز، مع فارق انها تابعة لنطاق الدولة اللبنانية، اي: لا جيش فيها، ولا امن، ولا عين فيها إلا في المناسبات. العين تنشغل ربما وتغيب أو يتم تغييبها. ليس غريباً أن جنوداً سوريين يختطفون إلى عرسال، فمعظم بيوت العراسلة تسخّر للاصدقاء السوريين الذين تحولوا معارضين سوريين عام 2011. صداقات التهريب تعيش ربيعها مع موسم حرب سوريا.
علاقة المهرب مع المهرّب مختلفة ومميزة في العلاقات الإنسانية. فهو بمهنته اليومية معرض للاعتقال أو القتل، ويعتمد الرشوة ويعرف المراكز الامنية. المهرب أقوى من يخترق الامن. ماذا لو كان للمهرب وجه سمّرته مشاوير الجبال من عهد الرئيس حافظ الأسد إلى عهد الرئيس بشار الأسد؟ ماذا لو يعرف جنوداً «مندسين» لم ينشقوا بعد، يشغلون مناصب حدودية ويمررون الانباء إلى «الثوار»؟

عرسال الدولية والإقليمية

يستحيل أن تدخل في هذه الايام إلى عرسال من دون ان تلمح وجهاً اشقر يحمل اوراقاً. منظمات دولية إنسانية، إستخبارات، صحافة، هيئات، بعثات... رئيس بلدية عرسال علي الحجيري لم يكمل دراسته ما بعد الابتدائي، ويروي أنه عمل في التهريب سنوات طويلة. لكن الحجيري (ابن أكبر عائلات عرسال) يمضي أيامه متنقلاً بين فرقة «اطباء بلا حدود» وفرقة «الصليب الاحمر النمساوي» وفرق الصحافة الأوروبية والاميركية. يتنقل من مكاتب مسؤولي تيار المستقبل إلى معراب كالسلطان، مروراً بمكتب العقيد المسؤول عن لواء الجيش اللبناني المتمركز حول مشاريع القاع. يحمل بين يديه القرويتين ملفاً ساخناً. حجمه 70 كلم حدودية مع سوريا من ريف دمشق مروراً بيبرود والنبك وقارة وصولاً إلى القصير الحمصية. والاهم من امتداد بلدته الجغرافي، امتدادها البشري. عائلات عرسال موجودة في مشاريع القاع ورعيانها متمددون على طول الخط الداخلي وصولاً إلى الضنية ووادي خالد في شمال لبنان. 40 ألف نسمة، ناشطة ومتعاطفة مع معارضة سوريا عبر عاطفتها «المستقبلية». عرسال تعيش «ثورتها» الخاصة، وتحلم بالمعابر الإنسانية التي ستأتي بها قرارات دولية إلى الحدود السورية. ومن عرسال إلى مشاريع القاع، الأرض تختصر الطريق العام، ولا حاجة للمرور في القرى الاخرى. بين الوعر يصل من يريد من أية نقطة في عرسال إلى مشاريع القاع ومنها بسهولة «شربة مي» إلى سوريا. هذا إن لم يسلك معابر الجبال وأشهرها «طريق بعيون» الذي يوصل إلى تخوم رنكوس في ريف الشام. من عرسال مرت كارولينا الاميركية، والصحافي الذي قتل في حمص «بول»، وسواهما. وحرص الأمين العام لقوى الرابع عشر من آذار على أن يخطب هناك ويطالب بالتدخل الدولي، في مناسبات عديدة. ومنها، المعبر لأكثر من ألف مقاتل من «الحر». ومنها معبر لأطنان المتفجرات الجاهزة او المعدّة. ومنها معبر لمن يشاء من العرب. ومنها معبر لمن يشاء من اللبنانيين. ويقال حتى ان منها دروباً سالكة إلى حلب.

عرسال القتال

يروي ع. (السوري الحموي) عن عرسال وتكاد الدمعة تفر في عينه. يقول إنها قد تساوي عنده بلدة سورية. فهو هرب من حماه إلى يبرود، ومن يبرود إلى عرسال ومن عرسال في وعرها وصولاً إلى مشاريع القاع. ومن القاع اخذه طريق الأرز إلى بشري ثم طرابلس حيث يستقر. يروي وهو قائد اعلى لكتيبة تابعة لكتائب الفاروق: «مهمتي في لبنان لوجستية بحتة، أنا أحوّل المساعدات المالية إلى سلاح». ويحمل «نور» السلاح إلى حمص. «نور» هو القائد الميداني للكتيبة. منذ فترة، كان يتردد إلى عرسال. يعرف فيها بيوتاً كثيرة. مر في بيوتها مراراً وتكراراً وسيمر، كلما أراد أن يدخل إلى حمص حيث تقاتل كتيبته. وكذلك مرر منها عائلة نور ووالدته، واخته، وكل من يشاء.
أخيراً دخلت صداقاته من تيار المستقبل على خط الوساطة وبدأ يستعيد بعضاً من المال الذي اخذه منه شخص عرسالي لقاء سلاح لم يأت له به.
ليس فقط لنزوح الحر إليها، بل تلعب البلدة دوراً طليعياً في تهريب جهاديين لبنانيين. ابو الفاروق، يروي في طرابلس عن عبوره عبر عرسال ليجاهد في القصير: «بالروحة وبالرجعة من عرسال»... يسمي الرجال بأسمائهم. يلاقيه من القصير صائب الحوراني الذي يؤكد: «كلما أردتم دخول القصير، فقط عليكم الوصول إلى المشاريع، ونحن من هناك نتولى المهمة». كما يحكى عن عبور عبد الغني جوهر (المطلوب في تفجيرات طرابلس 2008) من مخيم عين الحلوة إلى سوريا عبرها.

مشاريع القاع

بات لزاماً تغيير اسم المحلّة. فالمشاريع هناك عرسالية مئة بالمئة. بدأ استملاك الأرض بعد حرب تموز 2006. وبنيت بين بيوت المزارعين فيها بيوت حمراء متشابهة. عليها لافتات مؤسسات خليجية. تلك البيوت لعبت دورا في تمرير الجرحى من «الجيش الحر». هل هي صدفة بحتة أم ان مشروعا سياسياً مر تحت الاستملاك العرسالي؟ يتساءل اليوم بعض اهل القاع، بينما يأكلون أصابعهم ندامة على شهوة البيع التي اجتاحتهم بدل الاسعار المغرية في تلك الحقبة. ذنبهم ذنبان، فهم لا حول لهم ولا قوة في الصراع السوري. اليوم، باتوا كدرع بشري عازل بين عرسال... وعرسال. وعرسال، لا تستكين «الثورة» فيها. لا تكتفي البلدة بتعليق صورة الملك السعودي على بابها. ولا بتهريب السلاح والأفراد إلى سوريا ومنها. البلدة اللبنانية هذه تدخل في خلافات داخلية في «الجيش الحر» وتعرف ألقاب قياداته وأرقام هواتفهم وتنسق معهم وتتوسط لهم لدى الأجانب. وهي صدرّت عشرات المقاتلين العراسلة إلى قرى حمص.
يكفي أن يسأل المتفرج نفسه الاسئلة التالية ليفهم حقيقة ما عن عرسال: لماذا كان اول خرق حدودي مع الازمة فيها؟ لماذا أعلن رئيس البلدية صراحة ان «الجيش الحر» حاول أن يستولي على المعبر الحدودي في جوسيه منذ شهرين وتحديداً يوم استيلاء «الحر» على معبر باب السلامة التركي. لماذا اتهمت عرسال بتمرير تنظيم القاعدة ولم تتم تبرئتها رغم انعقاد المجلس الأعلى للدفاع؟ لماذا تتمدد إليها اشتباكات «الجيش الحر» مع الجيش السوري؟ لماذا تم اعتقال شباب عراسلة في عين الحلوة في ملفات «قاعدية»؟ لماذا تسمع لهجة عرسالية في القصير وهي المدينة الاستراتيجية لـ«الجهاديين» ولكتائب «الجيش الحر»؟ لماذا دفن الشيخ «امون» العرسالي في جوسية؟
أسئلة باتت كالاجوبة. بعد عام ونصف العام من «حرية» عرسال، الجيش اللبناني يدخل منقذاً مخطوفي الجيش السوري في عرسال، فهل ينجح في فصلها عما يجري في شقيقتها سوريا؟