عبارة «مش ماشي الحال» تتنقّل بين المناطق اللبنانيّة لتصبح «ما ماشي الحال» مع مُعدّ أطباق الفول في مطعم «الدنّون» الذي يتظلّل منذ أكثر من ثمانين عاماً فيء قلعة طرابلس. يثبّت «المعلّم» التلفزيون على قناة «إم. تي. في.»، ولا يغيّرها ولو دقيقة واحدة، خوفاً من أن يطلّ رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانيّة سمير جعجع، فلا يشاهده. لأنصار جعجع زجاجة «كراش» مجاناً، فهو «رافع رأسنا» بشجاعته وثباته ووضوحه. ولهم بدل صحن الفجل اثنان، فأفكارهم التحرّرية تولّد ثورة في كل حيّ من أحياء طرابلس. ولا شيء لدى «الدنّون» ليخسره.
فالسلاح وقتلة الرئيس رفيق الحريري وضعوا رأسهم برأس أحمد قعبور (وأغنيته المستقبلية الشهيرة)، فما عاد «البلد ماشي» ولا «الشغل ماشي». ومن الدنّون على مشارف أبي سمرا إلى التلّ، يمرّ الطريق بزواريب صغيرة تتقاسمها أسواق الملابس والخضر واللحم والدجاج والسمك و...صوت سمير جعجع. أنصار الرئيس نجيب ميقاتي لا يعيرون اهتماماً لصخب جيرانهم ما دام الرئيس يبتسم، وما دامت أهداف 14 آذار الكبيرة (نزع سلاح حزب الله وتحقيق العدالة وغيرها) تشغلها عن الأهداف الصغيرة (إسقاط رئيس الحكومة المكلّف). أمّا أنصار الرئيس عمر كرامي، فيعيشون على أعصابهم، وهم يسمعون أبناء مدينتهم يقولون: سمير جعجع يردّد ما نقوله يومياً، تكراره الثلاثي لبعض المفردات يُشعلنا حماسةً، واستعداده للمواجهات البطولية يسحرنا. هو اليوم وليد جنبلاط 2005 وأكثر. فمع أبو تيمور كنا دائماً نضع أيادينا على قلوبنا خشية انقلابه علينا، أما جعجع، فثابت ثابت ثابت، بؤس السجن لم يغيّره.
لا نفع هنا من التذكير بربطات الخبز التي صادرتها القوّات من المتموّنين العائدين من بيروت إلى طرابلس على حاجز البربارة، ولا من استذكار الرئيس رشيد كرامي، ولا من موقف الرئيس رفيق الحريري من جعجع. وهكذا من دكّان معارض إلى آخر: للحريري الاحترام والتقدير، ولـ«الحكيم» الحماسة والهتاف والتطبيل. ولا حاجة إلى القوات لتنظيم أنصارها في طرابلس، ولا إلى التحرّك ميدانياً، فالأمر مرتبط بما يوصف في العاصمة الشمالية بكاريزما جعجع وجرأته في وضع يده على الجرح. مسؤولو المستقبل يلتقطون هذه الإشارات جيداً، فيكتفون من الحريري بما أبدعه في 14 شباط في البيال، ويقرّرون تخبئة ما بقي من مواقف إلى اليوم المنتظر، فلا ظهورات تلفزيونية لرئيس تيار المستقبل، من الآن حتى الأحد. لقنوات 14 آذار نجم واحد اسمه سمير جعجع.

معارك وجوديّة

كل المعارك بالنسبة إلى القوات اللبنانية، منذ كانت، هي معارك وجودية: من معركة «استقلال 05» إلى معركة «إسقاط المثالثة» فمعركة اللاءات. وجهوزية القوات دائمة، فلا أحد يعلم متى «يدقّ» الخطر على الأبواب. مرّت أيام، حين صالح الحريري النظام السوري وهادن حزب الله، عانى فيها جعجع العزلة، لكنّه بقي متصالحاً مع نفسه: يقف حيث يفترض أن يكون، مع بشير الجميل ورفيق الحريري وجبران تويني والآخرين، الأمر الذي عزّز صدقيّته. وازداد الإعجاب بجعجع في ظلّ صموده بعد التخلّي الجنبلاطي عن «أهل السنّة» في لحظة يصوّرها البعض لهؤلاء بأنها مصيرية، من أجل حماية مصلحة طائفته، وفي ظل تفهّم أنصار الحريري قول جعجع ما يعجز الأول عن قوله: يأمل الحريري العودة إلى السرايا، وهو أمر مستحيل من دون حكومة وحدة وطنية، الأمر الذي يمنعه من كسر الجرة مع الطائفة الشيعية، فضلاً عن تقيّد الحريري بأجندة سعودية قد لا يناسبها التمادي في الضغط على حزب الله.
جعجع ينشر الحماسة إذاً في طرابلس كما في المنية والضنية وعكار، والمستقبليون يهتمّون بالباقي. أما في زغرتا والكورة والبترون، فمهمة القوات مزدوجة: بثّ الحماسة والانتقال من إقناع الأنصار إلى إقناع الرأي العام بضرورة المشاركة وتوفير القدرات اللوجستية لذلك. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ القوات تريد الاستفادة من مهرجان 13 آذار المنتظر لإعادة السيطرة على أنصار النواب الحاليين والسابقين المؤيدين لثورات الأرز، وهم الذين بدأوا الابتعاد عن القوات بعد الانتخابات البلدية الأخيرة التي أظهرت لبطرس حرب كما لميشال معوض وفريد مكاري أن القوات تقضم منهم وتشاركهم حصتهم.

زغلول زغرتا

في زغرتا، التحدي أمام 14 آذار قبل الشروع في استقطاب الزغرتاويين إلى تظاهرة 13 آذار، هو إرضاء الزغلول. والزغلول مطعم شاورما شهير في ساحة صليّب الزغرتاوية وشارع الميدان الإهدنيّ. أجمل ما في المطعمين، صاحبهما بطرس معوّض، الذي يغنّي ملحّناً كلماته فوق عوده، مرّة للنائبة السابقة نائلة معوض، ومرة لجيهان طوني فرنجية. وبحكم حماسته لقوى 14 آذار، أقرض صاحب الزغلول ممثّلي هذه القوى في زغرتا أكثر من 340 ألف دولار، على أمل استرجاع أمواله و«حبّة مسك» بعد الانتخابات، لكن لا الأموال رجعت ولا حلقه تذوّق المسك. وبالتالي، على القوّات اللبنانية وحلفائها في زغرتا استرجاع ثقة زغلول الزغرتاويين قبل أن تدعوهم إلى ساحة الشهداء. ويفترض أن تدفع تكلفة الانتقال مسبّقاً، هذه المرة. فالثورات تكون «كاش» لا بالدَّيْن، علماً بأن حركة القوات وحلفائها لحشد المناصرين تُعدّ متواضعة حتى الآن مقارنةً بالأقضية المجاورة الأخرى. فميشال معوض تشغله الأعمال بين فنزويلا وبعض المصارف اللبنانية. النائب السابق جواد بولس، الذي استردّ أخيراً سيارته التي كان يعرضها للبيع، يلازم منزله حين يزور زغرتا. والقوات تستصعب العمل دون أقنعة في القضاء الشاهد على المجزرة الرهيبة، وخصوصاً في ظل تصعيب النائب سليمان فرنجية المهمة على القوات وحلفائها. فبعدما فقدت هذه القوى صدقيتها، يقدم فرنجية يوماً تلو الآخر أمثلة عن الفرق بينه وبين غيره: في انتخابات 1998 البلدية وانتخابات الألفين النيابية، أخذت نايلة معوض من سليم كرم الأصوات ولم تعطِه شيئاً في المقابل. أما فرنجية، فحرص على نجاح كرم الذي انتقل إلى صفّه في الانتخابات النيابية الأخيرة أكثر من حرصه على نجاحه شخصياً. ولم يكتفِ بذلك، بل إنّه سمّى كرم ممثّلاً عنه في الحكومة المقبلة.

زهرة البترون

في البترون، تجاوزت القوات اللبنانية، تنظيمياً، نفسها في بشرّي. النائب أنطوان زهرا هو القائد، وشقيقه يهتم بقضايا المواطنين الخدماتية والاجتماعية، وتاريخه يصنع له هيبته، وردوده على العماد ميشال عون تجعله خبراً يومياً في الإذاعات والتلفزيونات. أضف إلى ذلك اعتزاز القواتيين به، باعتباره قاهر رجل التيار الوطني الحر الثاني، الوزير جبران باسيل.
أوّل من أمس، نظمت القوات وحلفاؤها مهرجاناً حاشداً في بلدة عبرين. لم تسجَّل أي مشاركة لمن يفترض أنهم في الضفة الأخرى، لكن شارك الكثير ممّن يكتفون غالباً بالتفرّج على السياسة من بعيد. وتعقد ماكينة القوات اجتماعاً يومياً في بعض البلدات لتضمن مشاركة غير الحزبيين، علماً بأنّ الكثيرين ممّن ينتظرون مناسبات كهذه «لقبض قرشين» يؤجّلون إعلان موافقتهم في المشاركة لاعتقادهم بأن «سعر» السيارة (كلفة النقل التي تدفعها جميع الأحزاب دون استثناء للمشاركين في التظاهرات) قد يصل إلى خمسمئة دولار. كما تنتظر جعجع في مقابلاته التلفزيونية مهمة صعبة لشرح مبررات المشاركة في التظاهرة، لأن الغالبية في مناطق نفوذ القوات لا يعنيها لا «غدر وليد جنبلاط» ولا «خروج سعد الحريري أو عدمه من السلطة». والغالبيّة نفسها، في البترون والكورة وزغرتا وبشري، لا يقع حزب الله نفسه ضمن نطاق رؤيتها، فكيف الحال مع سلاحه؟ وقلة فقط من هذه الغالبية ستقتنع بأنها «لا تصغر إن لم تكبر».

مأزق الكورة

ومن البترون إلى الكورة، حيث سُجِّل أول من أمس تجمّع شعبي حاشد للقوات اللبنانية منذ 2005. حضر أنطوان زهرا شخصياً لملء الفراغ الذي تعانيه قوى 14 آذار في هذا القضاء نتيجة تدهور صحة النائب القواتي فريد حبيب، وابتعاد نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري في المرحلة الأخيرة، مقابل تركيز النائب فرنجية، سياسياً وخدماتياً واجتماعياً، على استعادة نفوذه في هذا القضاء المجاور لزغرتا، بدليل اختياره النائب السابق فايز غصن لدخول الحكومة المنوي تأليفها. أما بلدات الكورة ذات الغالبية السنية، فتنتظر زيارة من أحمد الحريري كما يفعل عشية كل استحقاق شعبي أو انتخابي، في ظل توقع المعارضة أن يتحسن حضورها قليلاً في هذه البلدات التي خرج من إحداها رئيس فرع المعلومات وسام الحسن، والتي «تأخذ منا ولا تعطينا»، نتيجة وجود بعض المؤيدين للرئيس نجيب ميقاتي وبعض الذين يعتقدون أن رئيس حكومة طرابلسياً، يراهم ويرونه، أفضل من رئيس حكومة يقفل على نفسه داخل مربّع باطوني. كلّ ذلك يشجّع المتابعين على ترقّب حشد الكورة المشارك في تظاهرة 13 آذار لمعرفة مدى تغيّر موازين القوى في هذا القضاء الذي فاجأ المعارضة السابقة بنتائج مخيّبة في الانتخابات النيابية، ثم فاجأ القوات وتيار المستقبل بعد عام واحد في الانتخابات البلدية، بنتائج مخيّبة لهم هذه المرة.
أما في بشري، فالخطاب القواتي ينبئ بأنها معركة وجود بالنسبة إلى القوات. فإمّا أن يكون لبشري زعيم وطني مثل سمير جعجع أو لا يكون. من هنا تتكثّف الاجتماعات، وتجري الاستعدادات لزحف بشرّي بشبابها وشيبها إلى ساحة الشهداء. وقد ارتفعت في بشرّي أمس اللافتات المؤيدة للمحكمة الدولية والمعارِضة لسلاح حزب الله.
تعمل القوات اللبنانية ليظهر الشمال ـــــ الخزان، كأنه خزان للقوات اللبنانية. هناك وسط تيار المستقبل من يتساءل إن كان ذلك يفيد سعد الحريري أو يضرّه، لكن، بعيداً من المستقبل وحلفائه، ثمّة من يؤكد أن الحشد سواء كان قواتياً أو مستقبلياً، مئةَ ألف أو عشرةَ آلاف، ليس له معنى، فالكرة خرجت من ملعب الساحات وحشودها.