في تقريرها عن حرب لبنان الثانية، لم ترحم لجنة فينوغراد الإسرائيلية سياسيّي الدولة العبرية وجنرالاتها. لم تترك إخفاقاً إلا تحدّثت عنه، شارحة أسبابه وطرق تفاديه. لم تجد من يستحق الثناء على دوره في الحرب. ربما كان يجب على تلك اللجنة أن تخصّص جزءاً من تقريرها للإشادة بشخص استثنائي، أدّى دوراً محورياً في السعي لتحقيق الأهداف الإسرائيلية.
إنه جيفري فيلتمان، السفير الأميركي في بيروت. طوال حرب تموز/ آب 2006، كان الحامل الأمين للائحة المطالب الإسرائيلية. ينقلها من بيت سياسي إلى آخر. لا يقصر لقاءاته على السياسيين المؤثرين في البلاد، إذ يقضي جزءاً لا بأس به من وقته مع شخصيات غير مؤثّرة (الوزير السابق ميشال خوري مثلاً). يضغط على «مصادره» متى لاحظ تراجعهم، ويكلّف آخرين بخوض معركة لتسويق الشروط الإسرائيلية في مجلس الوزراء، أو في المجالس السياسية. ويحرص على معرفة ما يدور خلف الأبواب المغلقة، وخاصة في جلسات الحكومة التي كان عدد من الوزراء يتبرّعون بإيجازها له (خاصة مروان حمادة وشارل رزق والياس المر). يتصرّف كزعيم يقرّر عزل من تمرّد عليه، مانحاً إياه فرصة التوبة والعودة إلى الحظيرة. لم يقف الرجل عند حد. مستعد لكل ما يمكن القيام به، من أجل فوز إسرائيل.
عداء فيلتمان لحزب الله مفهوم. فهو سفير الدولة التي تضع الحزب على رأس لائحتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية. لكن أداءه في لبنان خلال الحرب، يتخطى كونه يحمل «قيم» العداء للمقاومة، كما يتجاوز الحرص على المصالح الإسرائيلية من باب الحلف الوثيق بين واشنطن وتل أبيب.
في البرقيّات الصادرة عن السفارة الأميركية خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، يظهر جزء من الدور الذي قام به فيلتمان. حواراته مع المسؤولين اللبنانيين تهدف دوماً لطمأنة إسرائيل. كان يقولها بلا مواربة أو خجل. فمعظم من كان يقابلهم في لبنان يشاطرونه آراءه، إن لم يكونوا أكثر منه تشدداً. لكنهم رغم ذلك لا يرضونه. فهم ينتقدون، في بعض الأحيان، شدة الضربات الإسرائيلية. وفي الوقت عينه، يريدون من إسرائيل أن تتخلص من حزب الله، أو أن تضعفه على الأقل. وعندما يطلب منهم إرشاده إلى السبل التي يمكن سلوكها للإضرار ببنية الحزب، يعجزون عن تقديم الاقتراحات (06BEIRUT2513).
الأمر لا يقتصر على طمأنة إسرائيل. فعندما يتعلق الأمر بانتقادها، حتى من حلفائه، تجده متدخلاً في برقياته بطريقة تخفف من وقع النقد أو تلغيه. يوم 29/7/2006 (06BEIRUT2492) كان الرئيس فؤاد السنيورة غاضباً. اشتكى لفيلتمان من عدم التزام إسرائيل بالهدنة التي أعلنتها (48 ساعة)، مؤكداً ان الطائرات الإسرائيلية قصفت سيارات إسعاف واضحة المعالم. مباشرة، يُبرز فيلتمان للسنيورة الرأي الإسرائيلي المبرر للقصف. يتحدث عن احتمال أن يستخدم حزب الله قوافل المساعدات الإنسانية لإمداد مقاتليه بما يحتاجون إليه. العبرة ليست في قبول السنيورة لهذا الاحتمال، بل في التعليق الذي أدرجه فيلتمان على البرقية. فرغم إقراره بأن بعض المنظمات غير الحكومية لم توفق في إيصال المساعدات إلى الجنوب، وأن الصحف اللبنانية تنشر صور سيارات الإسعاف المدمرة، يجزم بأن وضع الممرات الإنسانية ليس بالسوء الذي تحدّث عنه السنيورة. ولإثبات وجهة نظره، ينقل عن الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان، غير بيدرسن، قوله إن القوافل التابعة للأمم المتحدة لا تواجه أي صعوبة في الوصول إلى الجنوب.
وفي برقية أخرى، يظهر القدر الذي يحاول فيه فيلتمان تخفيف المسؤولية عن إسرائيل. يوم 26 تموز 2006 (06BEIRUT2475)، يُبلغ المستشار السياسي لليونيفيل، ميلوش شتروغر، السفارة الأميركية بأن الغارة الجوية الإسرائيلية لمقر مراقبي الهدنة في الخيام، التي أدّت إلى مقتل أربعة مراقبين أمميين، كانت على الأرجح متعمّدة. إلا أن فيلتمان يأبى أن تقتصر برقيته على ذلك. فهو ينقل عن موظف في الأمم المتحدة قوله إن الجنوبيين يحمّلون القوات الدولية مسؤولية بعض العمليات الحربية الإسرائيلية التي تستهدف النازحين. وبناءً على ذلك، يتساوى عند فيلتمان العمل الحربي الإسرائيلي ومشاعر السكان، فوضع لبرقيته عنواناً مفاده أن الأمم المتحدة في لبنان تشعر بالضغط من «طرفَي النزاع».
صحيح أنه ينقل في إحدى البرقيات ما يُقال له عن موقف الولايات المتحدة «غير الأخلاقي» من استمرار الحرب في لبنان (06BEIRUT2504)، إلا أنه في الوقت عينه لم يتحدّث عن الأوضاع الإنسانية الصعبة للّبنانيين، إلا من زاوية أن تراجعها سيؤدي إلى الإضرار بحكومة السنيورة (06BEIRUT2487).
أما في مفاوضاته، فيلتزم الموقف الإسرائيلي كاملاً. وعندما يواجه من يعارضه، يستخدم أسلوب «النق». يدفعه دفعاً إلى الموافقة على رأيه. بالتأكيد، تسري هذه الحالة على من له عليهم دالة، وهم كثر في لبنان. جرى ذلك، على سبيل المثال، يوم 25 تموز 2006. ففي لقاء مع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، عرض فيلتمان فكرة نشر قوات متعددة الجنسيات، تعمل وفقاً للفصل السابع من الأمم المتحدة، حاثاً السنيورة على إصدار موقف علني يطلب من المجتمع الدولي نشر هذه القوات. في البداية، رفض السنيورة (06BEIRUT2469) لكن سعادة السفير أصر. وبقي مصراً إلى أن انتزع موافقة رئيس الحكومة (الموافقة لم تؤدِّ في اليوم التالي إلى تنفيذ ما طلبه فيلتمان، لأن هذه الخطوة كانت خطاً أحمر تمنع المقاومة تخطيه).
وعندما يجد أن أمله بتنفيذ مراده قد انعدم، يلجأ إلى تلقين محاوريه أصول غشّ الرأي العام. فيوم 6 آب 2006 (البرقية رقم 06BEIRUT2542)، كان الحديث الدبلوماسي يدور حول مشروعين لقرارين عن مجلس الأمن، يمنح الأول إسرائيل حق البقاء في جنوب لبنان، إلى أن تضمن انتشار الجيش اللبناني والقوات المتعددة الجنسيات. السنيورة أبلغ فيلتمان بالرفض اللبناني لحل مبني على قرارين أمميين. كان فيلتمان يدرك أن الرأي العام اللبناني يرفض هذه الفكرة التي يصعب تسويقها. لكنه كان يريد انتزاعها بأي طريقة. لجأ جيف إلى حيلة ذكرها في تعليقه على البرقية. يقول إنه سيرى إمكان أن يوجّه السنيورة انتقاداته لمشرع القرار في العلن، على أن يتوجه إلى مجلس الوزراء قائلاً إنه لا خيار آخر أمام لبنان سوى قبول حل القرارين، «لما فيه من منافع للمدنيين اللبنانيين». الحيلة لم تمر، لكن السفير أدّى قسطه للعلى.
راهن مراراً على ابتعاد الرئيس نبيه بري عن حزب الله، وكذلك بالنسبة للنائب ميشال عون. رفض إدخال الأخير في أي مفاوضات تهدف إلى وقف إطلاق النار (06BEIRUT2470). فهدفه الرئيسي كان عزل حزب الله. ولتحقيق ذلك، كان مستعداً لأن يقضي «90 دقيقة» على الطريق بين عوكر والديمان، لقياس مدى رغبة البطريرك نصر الله صفير في تحقيق ذلك الهدف: حشر حزب الله بهدف تسليم سلاحه (06BEIRUT2527).
ورغم انشغاله بالحرب ومسارها، لم ينسَ جيف أي تفصيل متصل بالسياسة اللبنانية. استمر في البحث عن سبل لإخراج الرئيس إميل لحود من بعبدا، أو لحشر سوريا. وبين الحرب والرئاسة، يطمئن إلى المحكمة الدولية. وقبل نهاية الحرب، لا ينسى ضمان عدم محاسبة إسرائيل على ما فعلته. يطلب من وزير العدل، شارل رزق، ضمان ألا تطلب الحكومة اللبنانية محاكمة المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين. فبرأيه، إن خياراً مماثلاً سيكون «غير حكيم» (06BEIRUT2609). وزير العدل اللبناني، الطامح حينذاك إلى رئاسة الجمهورية، أطاع جيفري فيلتمان، من دون أي نقاش.