خرجت «خطة النقل» إلى الضوء للمرة الأولى الأسبوع الماضي بعد ثلاث سنوات في عتمة الأدراج الحكومية. بحسب وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي، فإن الرئيس فؤاد السنيورة كان قد جمّد الخطة لأنه راعي الخصخصة، وليس من مصلحته تحسين النقل العام، ويسجّل للرئيس نجيب ميقاتي إيقاظها من سباتها. حين أتى موعد بحثها في الجلسة، استحضر العريضي مدير مصلحة النقل عبد الحفيظ القيسي ليشرحها. ما كاد القيسي ينهي عرضه، حتى بدأت «الحركشات العونية». جبران باسيل الملوّع بالكهرباء جُنّ جنونه. فلا جدول زمنياً ولا موازنة للمشاريع. عملياً: لا خطة للنقل في الأوراق المطروحة. ثمة اقتراحات هي بمثابة حلول سطحية لأزمة السير. مرّت «الخطة» بعد بلبلة بموافقة مشروطة بتقديم... خطة!
مشكلة العونيين مع ورقة العريضي أنها تقارب مشكلة النقل من دون البحث في أصل الخلل. إذا كانت الكهرباء تعني كل مواطن، وتستحق التجاذب في الإعلام، فإن خطة نقل شاملة من شأنها تغيير شكل البلد اجتماعياً واقتصادياً، يجب أن تحدث مهرجاناً حكومياً. لكن ميقاتي أوقف المهرجان قبل حصوله. العريضي، هنا، يصبح منفتحاً على اقتراحات بعض الوزراء الذين يسخر منهم: «مرّت الخطة، وسآخذ بالاقتراحات».
في لبنان ثلاثة مطارات، سكة حديد، موانئ على البحر، وبلد بموقع استراتيجي. لكن ورقة العريضي اقتصرت على فتح مواقف سيارات على باب العاصمة، أو فرض رسوم على السيارات الداخلة إليها تفادياً للزحمة.
من صالونه المزين بالتماثيل والآثار الرومانية، يختصر الوزير مشاكل النقل بمشكلة السير: «سيارات قديمة، عدد السيارات من أعلى النسب، الطرقات، الكثافة السكانية».
يلفت، من دون سؤال، إلى أن سر نجاحه الدائم هو أنه «يشخّص الحالة صح، ليشخّص الحل صح». لكن تشخيصه لحالة النقل اختصر المشكلة بأزمة سير في العاصمة لا أزمة بلد مبتور الأوصال. وبذلك، تضمنت الورقة ـــــ الخطة قرارات لا تغيّر شيئاً. أولها صرف 50 مليار ليرة لشراء 165 قافلة للنقل العام. «بعدها، بإمكاننا أن نستحدث نظام فرض رسوم دخول على أبواب المدن. فاللبنانيون يحبون السيارات الخصوصية، لكن حين تؤلمهم في جيوبهم، يتعوّدون على النقل العام». لا جدول زمنياً للخطة، لذا، لا موعد لانتظارها. ورغم أن الوزير قدم الوعود على الورق، فإنه لم يبالغ ولا وعد بالمستحيل، كاستحداث قطار يصل المناطق بالعاصمة مثلاً. يرفع حاجبيه، «لا سكة حديد ولا قطار في المدى المنظور». ورغم وجود ست دراسات عن سكة الحديد في أدراج الوزارة، يطلب العريضي المزيد من المال لدراسة جديدة ستستغرق سنوات وملايين. ستبقى الطرقات أول مستهلك لوقت اللبنانيين.
لا حلول لأزمات المطار، يضع وزير النقل حداً لأحلام وزير السياحة فادي عبود: ليس هناك إمكان لخفض الأسعار، ولن نأتي بشركة تنافس شركة الوطن. والسياحة يضربها الوضع الأمني لا الأسعار. كرامة شركة طيران الشرق الأوسط هي كرامة لبنان. ويعقب: «أنا وزير وصاية، ومن يرد أن يبحث في أسعار الرحلات وصفقاتها أو يبدِ ملاحظاته، فأنا أرعى له اجتماعاً مع مدير الشركة محمد الحوت، وليتفق معه. إذا اتفقتم، فأنا أوافق».
حين تذمّر عبود من الأسعار، اتفق العريضي مع نقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر على أن يعرض ملاحظاته على الحوت. ذهب وقابله ثم غيّر رأيه، وقال إن «الأسعار معقولة». ويضيف: «كل من ينتقد المطار والحوت وشركة طيرانه، هكذا من دون الاطّلاع على الأوراق والأرقام، يضيّع الوقت سدى. حتى الوزير عبود تراجع وقال إن الأسعار معقولة بعد أن علم بالتفاصيل».
وفي الحديث عن الحوت وصفقاته، يصبح الدفاع عن شركة الطيران واجباً وطنياً، وتصبح صفقات المطارات والدول الأجنبية وتجاذباتها جزءاً من الدفاع عن كرامة لبنان. يروي العريضي: «أنا ربّيت الأتراك والإنكليز؛ فحين طلب الأتراك 16 رحلة، طلبت في المقابل واحدة لشركة طيران الشرق الأوسط، وحين رفضوا رفضت. واستمرت الاتصالات، الرئاسات الثلاث، الوزراء، توسّط الجميع ولم أعدل عن رأيي. في النهاية، حصل ما أردته، وأخذت MEA ما طلبته. أما الشركة الإنكليزية BMI، فلم أوافق لها على طلباتها، وقصدتني السفيرة البريطانية مرّتين لنمرر الموضوع ورفضت».
هكذا، فإن العريضي ساعة يفاوض العالم باسم الشركة، وساعة يقول: «أنا وزير وصاية، نسّقوا مع المدير».
عندما طرحت الخطة، اقترح عبود تفعيل الموانئ البحرية للرحلات اليومية ومطاري رياق وحامات للرحلات الداخلية السياحية. العريضي يأخذ بالأفكار، ويؤجل القرارات ثم يرد على عبود «مطار رياق مغلق لأسباب أمنية، أما مطار حامات، فترقّب زيارتي له بعد أسبوعين».
تحت صراع الوزراء في السياسة على حاجات السائقين والركّاب، لا تزال سيارات الأجرة تنتظر الوعد الذي قضى بإعطائها بدل 12 صفيحة ونصف من البنزين. وقبل أن يصرف البدل، يمنّن السائقين: «أنا دافعت عنهم، وهم ليسوا أولاد الطائفة ولا أولاد الحزب».
الوزير عبود ينتظر الرحلات الجوية الداخلية للنقل والسياحة بين مطارات لبنان، ولا يزال يغيظ العريضي بقصة «تاكسي المطار». فبعد أن اجتمع الوزيران مع السائقين في مكتب العريضي، لم يتوصّل أحد إلى حل، ولا تزال عملية استغلال الركّاب تحصل على باب المطار. ألا يستطيع عناصر الدرك تنظيم التاكسي؟ يجيب العريضي: «كلّهم متواطئون مع بعضهم. عصابات بين السائقين والدرك».
هكذا، مرة أخرى، يناقض الوزير نفسه، فيتحول السائقون الذين يدافع عنهم في سياق سابق إلى عصابات لا يمكن التحكّم بها.
يودّع العريضي زواره على باب المصعد حيث التماثيل. هناك أيضاً يذكّر بنجاحه ودهائه السياسي، متعالياً على طبقة سياسية يراها «مبتدئة». ثم يقول: «لا يمكنهم أن يلعبوا معي. أنا لا أتراجع، وكل شيء يحصل كما أريد في النهاية».