يدق جرس الإنذار في غرفة مركز الصليب الأحمر في منطقة الهرمل. تنطلق قافلة الإسعاف بسرعة نحو حدود مشاريع القاع. يقترب أحمد مع شباب اللباس الأحمر بين الطريق الوعر. يلاقيهم معارضو منطقة القصير السورية. يسلمون جرحى، ويغادرون. وبينما «الثوار» يسلمون جرحاهم، يكون سلاحهم لماعاً على زنودهم. يساعدهم فريق طبي نواته شباب من القرى المستلقية على وجهي الجبل، من سوريا ولبنان. فريق أصبح اسمه «مشفى ميدانياً». يعود «أحمد»، متطوع الصليب الأحمر، في سيارة الإسعاف ناقلاً جرحى القصير من طريق جرود العشائر إلى مستشفى القبيات العكارية. وهناك، يترك وديعته ويعود. لا يعرف كل ما يجري في الداخل، لكن الثابت الذي يعرفه، أنه كل يوم جمعة، يكون على موعد مع نداء جريح من أهل القصير يتسلمه من مسلحين، لا من الجهة الرسمية. هكذا منذ أول الأحداث. ومن الصليب الأحمر ومشاريع القاع إلى وادي خالد. هناك، يرن هاتف شيخ بلدة تلكلخ السورية المستقر في بيت عائلة في الهيشة اللبنانية منذ 8 أشهر بصفة «لاجئ». على الهاتف، مختار من مخاتير قرى الوادي، يقول له: سيأتينا فريق إعلامي بعد قليل، جهزوا الشباب. تنبري السواعد، يحمل الجندي السوري الفارّ هويته، ويجهز فيلماً من إعداد القناة السعودية أو القطرية. يعطيها «سبقاً إعلامياً خاصاً»، ويعلن، من وادي خالد، انشقاقه عن الجيش السوري وانضواءه تحت لواء ما سمي «الجيش السوري الحر». هكذا، أصبح الجندي بطلاً، والقناة «العربية» بطلة، والمختار «البدوي» بطلاً منذ أشهر قليلة. ومثله «أحرار» كثر.
ومن الوادي إلى عرسال البقاع. بين الجبال ترن الهواتف على طرفيها اللبناني والسوري. يحدد الموعد. وللمفارقة، إن المهرب العرسالي اسمه محمد فليطي. وكنيته مشتقة من اسم لقرية سورية. يروي أخو المصاب أن أخاه ركب في شاحنته الجبلية وعبر إلى مقلب «قارة» في ريف دمشق الشمالي، وحمّلها بالمواشي. وعاد أدراجه قبل انتهاء دوام الضابط المناوب. يعبر بنقلته إلى الجبل القريب، حيث له «خربة» يجمع فيها ماشيته في منتصف الجبل. ليلاً، في تلك المنطقة، حيث لا صوت يسمع ولا إشارات تبعث إلا بالرصاص بين الرعاة. هناك يبحث عن غنم تائه في تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً. وحينها، تصيبه رصاصات حراس الحدود السوريين. يعود إلى المستشفى في اليوم الثاني، ويصبح ثأره قضية سياسية لتحرير سوريا. ثم يموت في فراشه، وفي جنازته، تخرج عرسال في تظاهرة تشييع حاشدة، وتبكي الأمهات، ويلقين باللعنة والدعاء على الرئيس السوري.
على أرض الواقع، التواصل مفتوح عبر الحدود كلها من الجانب اللبناني، على امتداد 365 كيلومتراً من الشمال إلى الشرق. أما القرى المحاذية، والقنوات الجاهزة للتواصل من الجانب السوري، فهي: تلكلخ، العويشات، الدبوسية، القنيطرة، الكنيسة، بحيرة قطينا، هيت، البويط، القصير، قارة، فليطة، تلبيسة، الرستن، النبك، القلمون... وقرى أخرى عديدة وبلدات، تقريباً، معظم «الريفَين» الحمصي والدمشقي.
حرّاس الحدود، والقوة المشتركة، بشهادة قيادات أمنية رفيعة، امتهنوا التعايش مع التهريب كأنه أمر واقع، وكأن مهمتهم إدارته. على طريق جبل أكروم ووادي خالد ليس غريباً أن تلمح العين دوريات الجمارك غافية على جانبي الدرب، أو أن تُترك مراكز القوة المكلفة ضبط الحدود فارغة منذ أن سال الدم بين الأمن والناس.
لا سبيل إقليمياً وعالمياً لضبط الحدود، ولا نية لذلك. في الثمانينيات، حين أغلقت حدود وادي خالد، انزعجت شركات الكهربائيات اليابانية. هكذا هي، حياة برية لها هوية تختلف عن الأوراق الحكومية، وتتفوق عليها. جسد بعائلات واحدة متناثرة ومصالح واحدة متداخلة. فقر وحرمان كافر يحلل المحرمات.
تحمل شاحنات الجيش سواترها الترابية وتزور الحدود الشمالية كل فصل. تنثر التراب ليكون بمثابة فواصل حدودية، وبينما توضع السواتر، يكون التهريب جارياً... فجغرافيا المكان التي يعبرها الناس على الدواب والدراجات والسيارات والشاحنات أكثر وعورة من تلك السواتر البسيطة. هم أهل الأرض، إن كان من معوّق لهم، فحتماً ليس التراب.
الطبيعة العشائرية تعجنهم. فالبعثي لن يفضح ابن عشيرته، حتى لو مرر السلاح إلى تلكلخ.
للوصول براحة واطمئنان إلى عرسال، عليك أن تدخل عبر وساطة تيار المستقبل. وفي هذه الحالة، ستُمنَح الثقة كمتعاطف مع القضية ـــــ الحرية. فرئيس بلدية عرسال، حائز أهمية إعلامية إقليمية محيطة به وبطاقمه البلدي. كلما مر طير فوق عرسال، يهبّ نائب الرئيس «أبو عامر» لاستقبال اتصالات الفضائيات وللحديث عن حالة الظلم الذي يتعرض له أهل عرسال. قنوات لبنانية تلفزيونية تدخل صحونها الناقلة إلى الأراضي الداخلية، وقنوات أخرى يحرم عليها أن تدوس أو تعرف ما يجري. الأمر منوط بالتوجه السياسي.
نداؤهم منذ أسبوع كان للجيش كي يأتي ويضبط الحدود في وجه نظيره السوري. ثم حين أعلن وزير الدفاع فايز غصن تسرب عناصر من تنظيم القاعدة إلى سوريا عبر عرسال، ومن بعدها تفجيرات دمشق، أصبح الجيش عدو الثورة العرسالية أيضاً. بدوره، الجيش يسود قياداته الملل. ما عاد بإمكانها أن تفتح تحقيقاً هنا وهناك، على قضايا لا يمكن تصديقها، بينما تتكدس الإخباريات الأمنية على المكاتب من مختلف المناطق اللبنانية عن النشاط «التجسسي والإرهابي» صوب سوريا.
مع رئيس البلدية، علي الحجيري، من أمام الحاجز الأخير لفصائل الحرس الحدودي، سارت بنا السيارة ساعة ونصف ساعة قبل الوصول إلى الحدود الحقيقية. نقطة الحرس الأخيرة بعيدة عن مساكن المهربين مسافات في الجبال. والجيش، أي جيش؟ والمعلومات؟ آخر تواصل مع الدولة كان عندما حاولت دورية من استخبارات الجيش توقيف شخص سوري في عرسال، فتعرضت لهجوم لم ينقذها منه سوى رئيس البلدية وبعض المخاتير. وقبلها، حاول فرع المعلومات أن يقبض على متهم بالمشاركة في اختطاف الأستونيين، ففرّ بعدما نزل الرصاص على رجال الأمن من كل حدب وصوب.
وقعت قنبلتان على منزل مدرّس سوري متزوج من عرسال. سقطتا وأرهبتا عائلة آمنة. ذنب العائلة كان أنها ليست مع «الثوار». المنطق نفسه، لكن بأدوار معكوسة. وحين تسأل رئيس البلدية، يجيبك: «ذاك مخبر سوري».
يضحك الرئيس لدى السؤالات المكررة من دون أن يؤدي دور الضحية. يعرف أن قومه ليسوا أبرياء، لكنه يرى أن كل الأحداث جزء من الصراع اليومي. قاموسه مختلف. يروي على طريق الجبل السوري، بينما ينقطع إرسال الهواتف الخلوية. «نحن هنا كلنا جهاز أمني قائم بحد ذاته. الناس بالفطرة تعودوا مع الأحداث أن يتابعوا ويراقبوا بعين أمنية. طبعاً، الكثيرون من أبنائنا يعملون في التهريب، في تهريب كل شيء: مواشٍ، كهربائيات، مازوت... وكل شيء آخر».
للرئيس علي الحجيري إمبراطورية ورجال. خمس شاحنات تتوزع على الجبل، حولها خمسة عشر رجلاً بالكوفيات. كلهم يتجمعون حول الريّس، عند نقطة خربة داوود، حيث كان الحدث هذه المرة؛ فكل يوم، تُطلق النيران على «خربة» ما. والخربة بالقاموس العرسالي، هي المزرعة أو المقر الحدودي الذي يربض فيه الرجال كمقر جبلي. كأنه مصيف للتهريب في جرد البلدة. خربة حمام وخربة داوود هما النقطتان الأكثر اشتعالاً.
«هنا تعدى علينا الجيش السوري. الناس يعيشون الخوف، نريد أن يأتي الجيش ويحلها»، يقول أحد أبناء عرسال. وحين يقترب صوت الرصاص من الصوب السوري، يهرع شباب الريّس إلى شاحناتهم ليحملوا الرشاشات. يقصدنا أحدهم سريعاً: «أرأيتم؟ إنها محاولة اغتيال لرئيس بلدية عرسال».
الجهة السورية بدورها «وحّدت معايير» العمل الأمني. تعامل مهرّب المازوت والماشية الذي تربى على يديها، معاملة مهرب السلاح.
الجميع جاهزون للتعبئة. حتى تحت صوت الرصاص. يقمعهم الريّس علي الحجيري، ويكبح جماحهم. يدوّر الزوايا، يذهب إلى الأخير في سيناريو سقوط النظام السوري، ثم يعود بأفكاره ويقرر: «لست مع أحد، أنا مع عرسال».
هو نفسه الذي يشكو من الرصاص السوري، يحمل مسدسه، يطلق رصاصة في الجو للتسلية، ويكمل طريقه عائداً من الخربة الحدودية إلى عرسال البلدة. إلى الثلاثين ألف نسمة حيث الحارات المتلاصقة، على شاكلة بيوت الريف في الطرف الثاني من الحدود. إلى الجدران الفقيرة التي لم تُورّق. إلى الوجوه التي حفرتها قسوة الجرود. إلى رعاة الماعز والغنم. إلى تجار المازوت والسلاح. إلى حيث لقمة الناس تصبح كالكمائن وحياتهم كالسير بين الألغام، لا لذنب إلا لأن رجلاً بريطانياً وآخر فرنسياً اجتمعا في عام 1916، وقررا أن يرسما خطاً فاصلاً فوق أرض البلاد الواحدة.