أصدرت حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان بياناً دعت فيه إلى ضرورة منع الكيان الصهيوني من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، المقررة خلال الصيف المقبل في العاصمة الفرنسية باريس، وذلك بسبب الجرائم، والإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني.وجاء في البيان التالي:

اتّساقاً مع الجهودِ المبذولة عالميّاً لعزل الكيان الصّهيوني في كلِّ المجالات سياسياً، واقتصادياً، وفنياً، وثقافياً، وأكاديمياً، ورياضياً، وبسبب جرائم الإبادةِ التي يرتكبُها في قطاع غزة وعدوانه المستمرِّ على الضفة الغربية وجنوب لبنان، شاركنا في حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان مع حركات المقاطعة العالميّة (BDS) وسائرِ مجموعات المقاطعة العربية في حملة تغريدٍ في تاريخ 14 آذار/مارس 2024، هدفنا عبرها إلى الضغط على اللجنة الأولمبيّة الدوليّة لحظرِ الكيان الصّهيوني من الألعاب الأولمبية التي ستبدأ فعالياتُها في تاريخ 26 تموز/يوليو من العام الجاري في العاصمةِ الفرنسيّة باريس.
بعدَ عاصفة التغريد بأيام وتحديداً في تاريخ 21 آذار/مارس، أرسلنا رسالةً إلى اللجنة الأولمبيّة اللبنانيّة لحضّها على اتخاذِ موقفٍ مساندٍ للجنة الأولمبيّة الفلسطينية، ورفعهِ إلى اللجنة الدوليّة التي بدورها تمتلكُ قرارَ حظر مشاركة الكيان في أولمبياد باريس. وقد استندنا في طلبنا هذا إلى حوادث سابقة بيَّنت إمكانيةَ تدخل اللجنة الدوليّة لمنع أو تقييد مشاركةِ دول معيّنة، وهذا ما سنتطرق إليه بشكل مفصّل في المقال.
وصلَنا ردٌ من اللجنة الأولمبيّة اللبنانيّة بعد مرورِ ما يقارب العشرين يوماً من تواصلنا معَهم، أكَّدوا فيه موقفِهم الداعي إلى «وقف الحرب فوراً وإغاثة الشعب المظلوم»، ولكن في الوقت نفسِهِ عدم قدرتهم على إقحام السّياسة في العمل الرياضي. وأوضحوا تلقّيهم وباقي اللجان الأولمبيّة رسالةً من اللجنة الأولمبيّة الدولية في تاريخِ 19 آذار/مارس، بعنوان: Declaration by the IOC against the politicisation of sport، تذكِّرُهم فيها بضرورة «تطبيق البند رقم RES/ 78/10/A، من الشرعة الأولمبيّة الدوليّة والتي توصي بعدم التدخل في الأمور السّياسية والدعوة إلى السّلام».
وهنا نسألُ بصوت عالٍ: هل أصبحتِ الدعوةُ لتطبيق القانون الدوليّ، وتطبيقِ معايير اللجنة الأولمبيّة الدوليّة نفسها كما سنرى في الحالة الروسيّة والبيلاروسيّة، إقحاماً للسّياسة في الرياضة؟
وقد يفسرُ موقف اللجنة الأولمبيّة الدوليّة ورسالتها الأخيرة عدمَ تجاوبِ اللجان الأولمبيّة في دول عربيّة أخرى مع رسائل حملات المقاطعة في تلك الدول خوفاً من «التحذير» الذي وصلَهم، لأنَّ هذه اللجان تتبعُ اللجنة الأولمبيّة الدوليّة وهي مرجعها الوحيد بموجبِ الشّرعة الأولمبيّة، كما أكَّدت لنا اللجنة اللبنانيّة.

اللجنة الأولمبيّة الدوليّة تسنُّ القوانينَ ولا تطبِّقها
ينصُّ البيان الصحفيّ الذي صدر عن اللجنة الدوليّة في تاريخ 19 آذار/مارس 2023 على وجوب اتّباعِ المنظمات الرياضيّة داخل الحركة الأولمبيّة مبدأ «الحياد السياسي»، كما يؤكّدُ اعترافَ الجمعية العامة للأمم المتّحدة صراحةً بالمبادئ الأساسيّة للميثاق الأولمبي. فكيف تجلى هذا الحيادُ السياسي المزعوم في عملِ اللجنة الدولية؟
لعلَّ أبرز قضيةٍ أسهمت في الكشفِ عن الكثير من التناقضِ في مواقف اللجنة الدولية وأحدثها كانت إبان الغزو الروسيّ لأوكرانيا عام 2022، إذ سارعت اللجنةُ الدوليّةُ إلى إدانة الغزو الروسي بعد ساعاتٍ فقط من بدئه، وكانت من أوائل المنظمات الدولية - بإقرارها - التي فرضت عقوباتٍ على الحكومتين الروسيّة والبيلاروسيّة. بينما لم تُصدر أيَّ تصريح يُدين صراحةً حرب الإبادة «الإسرائيليّة» في غزة. حينئذٍ وفي غضون عدَّة أيامٍ أصدرت اللجنةُ الأولمبية الدولية ثلاثة بيانات:
24 - شباط/فبراير 2022: اللجنة الأولمبية الدولية تُدين بشدّةٍ انتهاك الهدنة الأولمبية.
25 - شباط/فبراير: يحثُّ المجلس التنفيذي للجنة الأولمبية الدولية جميعَ الاتحادات الدولية على نقل أو إلغاء أحداثها الرياضيّة المخططة حالياً في روسيا أو بيلاروسيا.
28 - شباط/فبراير: يوصي المجلس التنفيذيّ للجنة الأولمبيّة الدوليّة بعدم مشاركةِ الرياضيين والمسؤولين الروس والبيلاروس.
كما قررت قبلَ عدَّة أشهر تعليقَ عضويّة اللجنة الأولمبيّة الروسيّة بسبب ضمِّها منظماتٍ رياضيّة إقليميّة خاضعة للجنة الأولمبيّة الأوكرانيّة، وعلّقت كذلك عضويّة اللجنة البيلاروسيّة. إضافةً إلى كلِّ ذلك تفرضُ اللجنة شروطاً على اللاعبين الروس والبيلاروس حتى يتمكنوا من المشاركة في الألعاب الرياضيّة، وتنفيذ هذه الشروط ينقسمُ إلى مرحلتين، المرحلة الأولى يتمُّ فيها التأكدُ من مواقف اللاعب فيُمنَع من المشاركة في الألعاب الأولمبيّة كلُّ من يؤيد الحرب الروسيّة أو يؤيد الجيش الروسيّ (بما يشمل التعبير عن تأييده على مواقع التواصل الاجتماعيّ أو المشاركة في مظاهرات وتحركات). ومن يجتازُ المرحلة الأولى يُسمح له بالمشاركة في الألعاب الأولمبيّة، ولكن بصفته لاعباً فرديّاً محايداً يلعبُ تحت العلم الأولمبيّ لا العلم الروسيّ أو البيلاروسيّ، ولا يحقُّ له أن يحملَ أيَّ رمزٍ أو شعارٍ وطنيّ ولا يُعزَف نشيدُ بلاده الوطنيّ، كما لا يستطيعُ المشاركة في الألعاب الجماعيّة التي تتطلب وجودَ منتخبٍ وطنيّ. أي إنَّ اللجنة باختصار فرضت عزلةً رياضيةً بدوافع سياسيّة حتى على اللاعبين الروس والبيلاروس.
وماذا عن المعاملة بالمثلِ في حالة الكيان الصّهيوني؟ فعدد الرياضيين الإسرائيليين الأولمبيين في الجيش الإسرائيليّ يقدَّر بحوالى 150، بل إنَّ الجيش الإسرائيلي يمنحهم امتيازات خاصّة كي يستطيعوا المشاركة في أولمبياد باريس.
وكانت اللجنة الأولمبيّة الدوليّة قد استندت إلى المبررات التالية لاتخاذِ قرارِها بشأن روسيا وبيلاروسيا، وغضَّت النّظرَ عن مبرراتٍ مشابهة في الحالة الإسرائيليّة:
أولًا، اتّهمت اللجنةُ روسيا بخرقِ ما يسمى «الهدنة الأولمبيّة»، وهي قاعدةٌ غير ملزمة أقرّتها الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة تدعو الدولَ إلى وقفِ جميع النزاعات ابتداءً من اليوم السّابع قبلَ افتتاح الألعاب الأولمبيّة وحتى اليوم السّابع الذي يلي اختتامها.
مع العلم أنَّ روسيا نفسها خرقت الهدنة الأولمبيّة في الحرب مع جورجيا في 2008، وفي ضم شبه جزيرة القرم في 2014، والولايات المتّحدة في أكثر من حرب من حروبها الكثيرة، ولم ينتج عن هذه الخروقات أيّ عقوباتٍ مثل التي اتُّخذت مؤخراً بحق روسيا وبيلاروسيا.
ثانياً، اتهمتها بانتهاك الميثاقِ الأولمبي عبر ضمِّ الهيئات الرياضيّة في مناطق أوكرانيّة احتلَّتها روسيا بشكلٍ غير قانونيّ.
وماذا عن مباريات كرة القدم التي تجري في مستوطنات إسرائيليّة هي حسبَ القانون الدوليّ أراضٍ محتلّة؟ ألا تستحقُّ على الأقل نزعَ الشّرعية الدوليّة عن الاتحاد الإسرائيليّ وفرض عقوباتٍ عليه؟ علماً أنَّ كرة القدم كانت أولَ لعبةٍ جماعيّةٍ تدخلُ في فعاليات الألعاب الأولمبيّة.
وحين صرَّح وزيرُ الخارجيّة الروسيّ بأنَّ اللجنة الأولمبيّة الدوليّة تمارسُ ازدواجية المعايير، لم تجد الأخيرة رداً أفضل من الردّ الفارغ: الحالة الروسيّة حالةٌ فريدةٌ من نوعها ولا يمكنُ مقارنَتها بأي حالة أخرى في العالم! ألا يؤكد هذا تدخلَ السّياسة في الرياضة وهو ما يتعارض مع القوانين التي سنَّتها اللجنة الدوليّة نفسها والتي تطالبُ اللجان الوطنيّة بالالتزام بها؟


بين فلسطين وأوكرانيا... الكيل بمكيالين

تنصُّ الشّرعة الأولمبيّة على أنَّ ممارسة الرياضة حقٌ من حقوق الإنسان، ولكن هل سيظلّ هذا حبراً على ورق كلّما تعلقَ الأمرُ بفلسطين وشعبها؟ ألم تبلغ اللجنة الأولمبية رسالةٌ شرحَ فيها أكثر من 300 من الأندية الرياضيّة الفلسطينيّة ومنظمات المجتمع الأهلي الأسبابَ الموجبة لحظر الكيانِ الصّهيونيّ في أولمبياد باريس؟ ألم تكفِ اللجنةَ الأولمبيّة الصورُ ومقاطعُ الفيديو التي انتشرت لاجتياح الجيش الإسرائيليّ ملعبَ اليرموك، وهو أحد أقدم الملاعب في فلسطين، وتحويلِه إلى مركزِ اعتقالٍ وتنكيلٍ بحقِّ الفلسطينيين من الأطفال والنساء والرجال، ألَم تسمع اللجنة الأولمبيّة الدوليّة بقتل الجيش الإسرائيلي 182 رياضياً فلسطينياً خلال العدوان الحالي، وتدميره 55 منشأةً رياضيّةً في غزة والضفة الغربيّة؟ ألم تبلغها مناشداتُ اللّجنة الأولمبيّة الفلسطينيّة حتى تُقررَ اللجنةُ الدوليّة إدانةَ الكيان الصّهيونيّ أو فرض عقوبات على لاعبيه تلزمُهم باللعب كأفراد محايدين، أو أن تُظهِر تعاطفاً مع الفلسطينيين كما تفعلُ مع الأوكرانيين؟ يبدو أن الجواب هو كلّا! بل على العكس من ذلك، يُطمئِن رئيسُ اللجنة توماس باخ الجانبَ «الإسرائيلي» بمشاركته في الألعاب الأولمبيّة بالقول «لا، ليس هناك شك في هذا الأمر».
لا توفّرُ اللجنة الأولمبيّة الدوليّة فرصةً لتعبّر عن كاملِ دعمها للرياضيين الأوكرانيين وبكلِّ الوسائل الممكنة لضمان قدرتهم على مواصلةِ التدريب والمشاركة في المسابقات والتكفّلِ بتكاليف السّفر ومرافق التدريب والإقامة والمعدات والزيّ الرسمي... ولكنها يبدو أنها تتجاهل كلّياً معاناة الرياضيين الفلسطينيين.
لم يلتزم الكيان الصّهيوني بقرارِ مجلس الأمن «الملزم» الذي دعا إلى وقف إطلاقِ نارٍ فوريّ في غزة خلال شهر رمضان، وقبله لم يلتزم بقرارات محكمة العدلِ الدوليّة، وعليه فإنَّ اللجنة الأولمبيّة الدوليّة أمام امتحانٍ لمصداقيّتها: إذا استمرت الحرب على غزة حتى الألعاب الأولمبيّة، كيف ستتعاملُ اللجنة الدوليّة مع هذا الخرق؟
ختاماً، لا يسعُنا إلا أن نؤكِّد تداعي أسطورة فصل الرياضة عن السّياسة، وحياد اللجنة الأولمبيّة الدوليّة السّياسي، فمواقفها من الحرب الروسيّة في أوكرانيا، وحرب الإبادة في غزة مبنية على ازدواجية معايير ليست سوى ترجمة واضحة لموازين القوى السّياسيّة، إذ تعاقبُ روسيا وبيلاروسيا على أفعالٍ ترتكبُ مثلها «إسرائيل»، بل وأفظع منها، وتنجو من العقابِ كما في كلِّ مرة.
ضميرُ العالم في امتحانٍ حقيقيّ في غزة... فليسقط المنافقون!