رؤية إسبانيا في نهائي ثالث على التوالي في بطولة أوروبا للاعبين دون 19 سنة لم تكن أمراً غريباً على المتابع عن كثب للكرة الأوروبية؛ فالمنتخب الأحمر حضر سبع مرات في نهائي البطولة المذكورة منذ 2002، فائزاً في 6 مناسبات. طبعاً، هذا الإحصاء يثير الدهشة، وإذا دلّ على شيء، فهو يدل على ثبات في النتائج والعمل على مستوى الكرة الإسبانية. الأرقام تحضر مجدداً وتترك المزيد من الدهشة؛ إذ إن رصيد إسبانيا من الانتصارات منذ 2006 كان على النحو الآتي: المنتخب الأول ظفر بكأس العالم 2010 وبكأس أوروبا مرتين، ومنتخب دون 21 سنة تذوّق طعم اللقب الأوروبي أيضاً، ومثله منتخب دون 19 سنة الذي احتفل باللقب القاري 4 مرات، بينما حمله منتخب دون 17 سنة مرتين.
إذاً النجاح يبدو جليّاً على كافة المستويات، ومردوده سبق أن ظهر من خلال الإنجازات الرائعة للمنتخب الأول، وهو أمر مرشح للاستمرار في السنوات المقبلة؛ إذ إن المنطق يقول إن أي نجاح هو مسألة مبنية على أسس صحيحة وناجحة، وهو أمر لا شك فيه ناحية وجود منتخب فئات عمرية تفوق بمستواها جميع منافسيها الحاليين.
فعلاً، يبدو مخيفاً بالنسبة إلى المنتخبات الأخرى التفكير في أن إسبانيا ستفعل على مسرح المستوى الأول ما تُقدِم على فعله حالياً على مستوى الناشئين والشباب. وبالفعل، خوفها هذا سيجعلها تبحث عن أسرار الاكتساح الإسباني، وهي أسرار ستتحوّل إلى دروسٍ لها من أجل محاولة ضخّ الفلسفة الإسبانية في كرتها، وبالتالي حصد الإنجازات.
ونقول هنا فلسفة إسبانيا، وهو مصطلح جديد لم نعهده سابقاً؛ إذ إن العالم استخدم كلمة فلسفة في عالم الكرة إلى جانب أسماء بلدان أخرى هي البرازيل وإيطاليا وألمانيا تحديداً، لكن إسبانيا تفوقهم كلّهم حالياً، بعدما اخترعت هوية خاصة بها ترتكز على أمرين أساسيين لا ثالث لهما ويرتبطان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما.
وهنا الحديث عن المدربين الإسبان العاملين في مجال تنشئة اللاعبين، والأكاديميات الموجودة في البلاد، التي خرّجت أبرز النجوم الحاليين في المنتخب الإسباني.
وربما أتى البعض ليقول إن كل البلدان الأوروبية والمتطوّرة كروياً تصب اهتماماً على صعيد الصغار، وهو أمر صحيح، لكن الفارق بين إسبانيا والبلدان الأخرى هو تخصّص المدربين في عملهم، بحيث إن الأندية الإسبانية لم تتخلف عن منح الأدوار الأساسية في أكاديمياتها لأفضل مدربيها بدلاً من إعطائهم دوراً محدوداً في الجهاز الفني للفريق الأول. وهؤلاء المدربون هم الذين شكّلوا الظهر القوي للمدربَين لويس أراغونيس وفيسنتي دل بوسكي اللذين قادا البلاد إلى المجد الكروي.
وبالفعل، أصبح مدربو الفئات العمرية الإسبان مرجعاً على هذا الصعيد؛ إذ إن تفانيهم في العمل خلال الأعوام الـ 20 الأخيرة خلق الجيل الذهبي الذي نشهده حالياً، فبدا واضحاً من خلال أداء اللاعبين الناشئين والشبان أن هؤلاء لا يعتمدون فقط على التقنية أو الموهبة الفطرية التي تخلق معهم، بل على معرفة كيفية التحرك واللعب ضمن مجموعة، وقد أُضيفت إليها ميزة الصبر التي أصبحت سمة المنتخب الإسباني، بحيث يتناقل لاعبوه الكرة لدقائق طويلة حتى يصلوا إلى مبتغاهم.
وفي موازاة هذا العامل الحاسم، أي وجود مدربين يعرفون كيفية العمل بطريقة مثالية، وُجدت الأرض المثالية لزرع هؤلاء للبذور المثمرة، وهي تتمثل بالأكاديميات التي شهدت منافسة شرسة في مجال تخريج اللاعبين، وقد دخلها أخيراً أتلتيك بلباو عبر «ليساما» التي أصبحت مصدراً أساسياً لتقديم لاعبين إسبان مميزين على غرار ما فعلته «لا ماسيا» الشهيرة الخاصة ببرشلونة. وتخريج هذه الأكاديميات لدفعات من اللاعبين، لا لواحدٍ أو اثنين، أعطى إضافة إيجابية أخرى، هي اعتياد هؤلاء اللاعبين بعضهم بعضاً منذ سنٍّ صغيرة، ما يخلق كيميائية استثنائية يمكنها فرز أشياء لم يرها عالم الكرة سابقاً، وهذا ما عكسه برشلونة طوال المواسم الأخيرة ثم عبر تحوّل لاعبيه إلى المدماك الأساسي في منتخب «الغضب الأحمر».
ببساطة، لم تحقق إسبانيا أي شيء بالصدفة، فهي عرفت كيفية تأسيس دفاعٍ إيطالي صلب، وخط وسط ألماني مجتهد وهجومٍ برازيلي خلّاق، بحيث أخذت من كل مدرسة ما تتميّز به، وصنعت لنفسها وحشاً كروياً هجيناً لن يكون من السهل على أحد وقفه؛ فهو الآن بقوة الثور المندفع لدهس «الماتادور» وكل من يحاول ترويضه.



أبناء المهاجرين هنا


يمكن انتظار كوكبة جديدة من النجوم الإسبان في المستقبل القريب، بعدما قدّم منتخب دون 19 سنة هداف البطولة خيسيه رودريغيز. وحول هذا اللاعب اجتمع عدد من القادمين من ابرز اكاديميات بلاد «الليغا»، وقد لفت الانظار بينهم مدافع أتلتيك بلباو «الاسمر» خوناس راماليو، ذو الأصول الأنغولية، وزميله مدافع ريال مدريد ديريك أوسيديه، ذو الجذور النيجيرية، ما يدلّ على ان الاسبان لم يهملوا ايضاً الموهوبين من ابناء المهاجرين، أسوة بباقي الدول الاوروبية الاخرى.