ليس غريباً أن يقول الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي (صورة 2) إن بلاده هي الهدف الثاني لتنظيم القاعدة والمنظمات الإرهابية حول العالم؛ إذ يدرك الرجل في قرارة نفسه أن الأفكار التي خرج بها السياسيون في بلاده طوال الأعوام الأخيرة تثير حفيظة المتطرّفين حول العالم؛ فلا يمكن نسيان الحملة على الحجاب في فرنسا، إضافةً إلى «المعاملة الخاصة» التي حظي بها سكان الضواحي الذين يعدّهم البعض شوكة في خاصرة الخريطة الفرنسية، فضلاً عن الإصرار الكبير لدى أحزابٍ عدة على عدم النظر إلى المنحدرين من أصول عربية أو أفريقية بالطريقة نفسها التي ينظر من خلالها إلى «السكان الأصليين».
فرنسا، تلك البلاد المتشبعة بالثقافة ورأس الحربة في وجه العنصرية في المجالين الاجتماعي والرياضي، ضاق سياسيوها ذرعاً بالمهاجرين وأولادهم؛ ففي كل فترة تطفو إلى العلن تصريحات تكشف عمّا يشبه الكره تجاه أولئك العرب أو الملوّنين الذين انصهروا في المجتمع منذ فترةٍ بعيدة من دون أن يضطروا إلى تغيير عاداتهم وتقاليدهم، وهي مسألة لا تعجب الكثيرين في فرنسا، فأصبح هناك أكثر من جان ماري لوبن...

كرة القدم لاستئصال الغرباء

الحدّ من نسبة عدد اللاعبين من أصول أفريقية أو مسلمة بما لا يتجاوز «إثنياً» ٣٠ في المئة، هو الفكرة الأكثر جنوناً التي عرفتها البلاد في عصرها الحديث. هذه الفكرة هي من دون شك نتاج تفكير عددٍ لا يستهان به من الرؤوس الكبيرة في البلاد، وقد شعر بها كثيرون عشية نهائيات كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا عندما استبعد المدرب السابق ريمون دومينيك الثلاثي من أصل عربي سمير نصري، حاتم بن عرفة وكريم بنزيما، في الوقت الذي حاول فيه كثيرون إبعاد الشبهات عن تصرّفٍ مقصود من أسوأ المدربين الذين عرفهم منتخب «الديوك». لكن المتابعة بقيت موجودة بعد رحيله ووصول لوران بلان، فكانت القنبلة التي تفجّرت أخيراً، كاشفة عن أفكارٍ عنصرية بحتة تتداول منذ فترةٍ ليست بقصيرة داخل أروقة الاتحاد الفرنسي للعبة.

ومما لا شك فيه أن التأثير السياسي موجود، ويأتي ما حصل ليؤكد أن دومينيك حظي بدعمٍ مباشر من رؤوسٍ كبيرة في البلاد، منها ساركوزي الذي وفّر الحماية له رغم النتائج السيئة التي حققها وكره اللاعبين له. لكن بقي السؤال عن التأثير في قرارات الخيارات العنصرية لدومينيك من دون جواب، ليعود بقوة ويطرح على الطاولة عقب فضيحة «الكوتا» الوطنية.
إذاً، التأثير السياسي ليس بعيداً عن كل ما يحصل؛ إذ إن بعض رجال السياسة في فرنسا لم يفرحوا يوماً لإنجازات المنتخب الفرنسي؛ لأنها جاءت بمعظمها بفضل أقدام أبناء المهاجرين، فيذكر الجميع كيف ذهب النائب الراحل جورج فراش (الحزب الاشتراكي) في 2006 إلى السؤال عن كيفية إيجاد طريقة لتحديد نسبة معيّنة للاعبين السود ضمن المنتخب الوطني. وقبله كانت الفكرة عند وزير الخارجية السابق برنار كوشنير (صورة 3) الذي ضبطته كاميرات التلفزيون الفرنسي «تي أف 1» واقفاً أمام شاشة التلفزيون، لا لمتابعة إحدى مباريات المنتخب الوطني، بل «للبحث عن اللاعبين البيض وسط كل هؤلاء السود» على حدّ قوله!
الردّ وجد دائماً في «استاد دو فرانس» الذي يحتضن غالباً مباريات المنتخب الأزرق على أرضه، فكانت صافرات الاستهجان تصدح في كل أرجائه عند عزف النشيد الوطني (لا مارسييز) قبيل انطلاق أي مباراة، وهي أشارت إلى أن مشكلة إثنية موجودة بقوة في كرة القدم الفرنسية؛ إذ إن القادمين لمتابعة المباراة جاؤوا لمؤازرة أبناء جلدتهم، لا وفاءً للوطن ومنتخبه المؤلف من «إثنيات مختلفة».

في المقابل، كان المسؤولون الفرنسيون من اليمين المتطرّف يترقبون أي فرصة للانقضاض على اللاعبين المزدوجي الجنسية في المنتخب الوطني، فلم يتأخروا في اتهام نيكولا أنيلكا وباتريس إيفرا ورفاقهم بأنهم عصابة متمردة سببت كارثة خروج المنتخب من الدور الأول في المونديال الأخير، مبرّرين اتهاماتهم بأن هؤلاء اللاعبين يفتقرون إلى الروح الوطنية؛ لأنهم ببساطة لا ينحدرون من أصول فرنسية.

اضطهاد اجتماعي ـــ رياضي

وجاءت الفضيحة الأخيرة لتؤكد أن المدّ والجزر الحاصل هو واقع لا يمكن تخبئته بعد الآن، فهناك مخطط لاضطهاد اجتماعي يبدأ من كرة القدم، الرياضة الأولى في البلاد، وخصوصاً عند أبناء الطبقات الكادحة، والأكثرية الساحقة منهم من سكان الضواحي البسيطة أو المدن الأقل مستوى معيشي من العاصمة باريس. وبالطبع تعجّ هذه المناطق بالمهاجرين الذين يرى أولادهم في بلوغ النجومية خلاصاً من حياة البؤس.
ويأتي تأكيداً لهذه النقطة، ما صرّح به المدافع الدولي السابق ليليان تورام، أحد رموز الفوز بمونديال 1998؛ إذ قال في تصريحٍ إلى هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»: «الأشخاص الذين يتأثرون بهذا التمييز في المعاملة هم الأطفال الذين يعانون أصلاً صعوبات في المجتمع الفرنسي، فيكون حلمهم إصابة النجاح عبر الرياضة، وتحديداً في كرة القدم. لذا، إن هذا التفكير يعدّ ضربة مزدوجة بالنسبة إليهم».
وتورام نفسه انتقد لوران بلان، داعياً إياه إلى الاستقالة، فما كان من كريستوف دوغاري وبيشنتي ليزارازو زميليه السابقين في «المنتخب الذهبي» الذي جلب لفرنسا أهم مجدٍ كروي في تاريخها قبل 13 عاماً، أن ردّا عليه بقساوة، ليتضح أن المشكلة قديمة وعميقة، وبعض الفرنسيين نسوا أن إطلاق الاحتفالات في الشانزيليزيه عام 1998 كان سببها نجم جزائري الأصل اسمه زين الدين زيدان ومعه كوكبة من أبناء المهاجرين القادمين من غانا والسنغال وأرمينيا وكاليدونيا الجديدة وغوادالوب وغيرها...
واللافت أنه عامذاك رفض الفرنسيون مناقشة نصرهم الكبير الذي لحق به الفوز بكأس أوروبا عام 2000؛ إذ رأوا أنهم لم يسرقوا المواهب من أفريقيا وغيرها من البلدان التي استعمروها سابقاً، بل إن نجاحهم هو حق مشروع؛ لأنهم استثمروا في هذه المواهب وصرفوا الأموال لصقلها، لتحمل إليهم المجد في نهاية المطاف. هذه التجربة صفّق لها كثيرون واتعظت منها بلدان مجاورة أخرى، ومنها ألمانيا التي سارت على الخطى عينها بعد أعوام، محاولة إقناع التقليديين في البلاد بجدوى ضم أبناء المهاجرين والاستفادة منهم، وذلك عبر القيام بحملات تسويقية تؤكد مدى أهمية وجود اللاعبين السمر أو ذوي الأصول العربية في صفوف «المانشافت»، فكانت النتيجة ملموسة في مونديال جنوب أفريقيا، حيث برز الألمان مجدداً بفضل الكردي الأصل مسعود أوزيل والتونسي الأصل سامي خضيرة وغيرهما.

لا لتمثيل فرنسا

ويمكن اعتبار أن التطرف الكروي الحاصل في الفترة الأخيرة دفع لاعبين عدة إلى اختيار بلادهم الأم للدفاع عنها بدلاً من الانضمام إلى المنتخب الفرنسي، وذلك رغم لعبهم مع «الديوك» في منتخبات الفئات العمرية. وكان المثال الأخير على خطوة مشابهة اختيار أربعة لاعبين أساسيين من المنتخب الفرنسي الفائز بكأس العالم للاعبين دون 17 سنة عام 2001، ارتداء قميص منتخب أجدادهم، وهم الجزائريان مراد مغني وحسن يبدة (شاركا في مونديال 2010) والسنغاليان جاك فاتي وايمرسي فاي، وقد يلحق بهم كثيرون في الفترة القريبة المقبلة بسبب إدراكهم أن أبواب كليرفونتين لن تكون مفتوحة لاستقبالهم بحفاوة.
ختاماً، لا بدّ من القول إنه صحيح أن مسألة منع بلان تقديم وجبات من اللحم الحلال خلال تجمّع لاعبي المنتخب الفرنسي، قد تكون معلومة غير دقيقة، لكن اتحاده أعلنها بوقاحة: أبعدوا أعداء ثقافة الجبنة والنبيذ عن الفرق والمنتخبات الكروية.



كل الأساطير أجانب

يتساءل كثيرون إذا ما كانت الكرة الفرنسية ستحظى بالسمعة التي تتمتع بها حالياً لولا أولئك المهاجرون الذين صنعوا أمجادها، إذ إن كل «الأساطير» الذين مروا في تاريخها كانوا «أجانب»، ابتداءً من جوست فونتين، المولود من أب مغربي وأم إسبانية، مروراً بريمون كوباتشيفسكي، «كوبا»، البولوني المولد، وميشال بلاتيني (الصورة)، ذي الوالد الإيطالي، ووصولاً الى الجزائري زين الدين زيدان.