«التاريخ يعيد نفسه». هي إحدى العبارات الشائعة التي نسمع بها في كل مرّة يتشابه فيها حدث ما مع حدثٍ سابق، وهي عبارة ترددت كثيراً مع خروج منتخب لبنان من دور المجموعات في كأس آسيا 2019. لكن بنظر الكثيرين من المؤرخين، فإن هذه العبارة بحدّ ذاتها خاطئة، أو يتمّ وضعها غالباً في سياقٍ خاطئ، فالتاريخ مبني على ثوابت، وهذه الثوابت إذا لم تتغيّر تكون النتيجة الحتمية هي عينها، وذلك ضمن الدورة التاريخية التي بدأت في مكانٍ ما ولا تزال مستمرة. هذه المقاربة تعكس ما حصل مع منتخب لبنان سابقاً وحالياً، وما يمكن أن يحدث لاحقاً، فالدورة الكرويّة لا تزال تسير على ثوابت لم تتغيّر منذ زمنٍ بعيد، فكان الخروج الشبيه بذاك الذي عرفه منتخبنا في كأس آسيا 2000، أو الإقصاء الشهير من التأهل إلى العرس القاري السابق. أمّا الثابتة الوحيدة هنا فهي أن الكرة اللبنانية تدور في الحلقة نفسها، فتكون الخيبة منتظرة بالنسبة إلى أولئك الذين استوعبوا هذه المعادلة منذ زمنٍ ليس بقصير، وتكون مسؤولية الفشل مرتبطة بكل شيء يرتبط باللعبة، فالأكيد أن السبب لا يتحمله شخص واحد، إن كان لاعباً أو فنياً أو إدارياً أو حَكَماً.ببساطة، الموضوع لم يكن قراءة خاطئة من مدرب، أو خطأ قاتل من حارس مرمى، أو السقوط أمام منتخبين يملكان إمكانات مالية أكبر، بل إن المنطق، واستناداً إلى الوضع العام الذي تعيشه الكرة اللبنانية منذ أعوامٍ طويلة، يقول إن الواقعية يجب أن تكون حاضرة في عمليّة قراءة أداء منتخب لبنان ونتائجه وصورته، ما يعني أن ما حصل ليس بالمفاجأة أو لم يكن منتظراً. صحيح أن الطموحات كانت كبيرة والآمال كانت أكبر انطلاقاً من شعورٍ وطني، لكن تقبّل الواقع يأتي من منطلقٍ علمي يضيء على الحالة العامة التي نتجت منها النتائج الأخيرة، ففي نهاية المطاف المنتخب هو نتاج اللعبة المحلية فقط لا غير.

صناعة الموهبة
وعن النتاج، يمكن الكلام عن لعبة ظهرت في المواسم القريبة الماضية غير منتجة على صعيد المواهب التي تعدّ المادة الأوليّة لتصنيع منتجٍ بجودة عالية. وصناعة الموهبة أو اللاعب تمرّ بمراحل عدة قبل الوصول الى تقديم منتجٍ بجودة عالية، فالموهبة الفطريّة الموجودة عند اللاعب يفترض أن تمرّ بمراحل تحاكي الجوانب البدنية والتثقيفية والتكتيكية لكي يصل صاحبها إلى الفريق الأول جاهزاً لتقديم نموذج مثالي عن لاعب كرة القدم. أما في لبنان، فإذا ما وجدت الموهبة فهناك احتمال كبير لأن تبقى موهبة حتى نهاية مسيرة اللاعب، وذلك لأنّه لا يتمّ تصنيعها أساساً بشكلٍ صحيح، فيظهر عدم التطوّر على كثير من اللاعبين الذين اعتبروا مميزين في بداية مسيرتهم، وبالتالي يقدّمون أداءً مخيّباً عندما يوضعون في اختبارٍ عالي المستوى، تماماً كما حصل مع بعض لاعبي المنتخب الذين كان الاعتماد كبيراً عليهم في كأس آسيا الأخيرة.
الثابتة الوحيدة هي أن الكرة اللبنانية تدور في الحلقة نفسها، فتكون الخيبة منتظرة دائماً


وتتحمل «مصانع الإنتاج» الجزء الأكبر من المسؤوليّة في هذه المعضلة، أي الأندية التي تؤسس بطريقة خاطئة في ميادين الفئات العمريّة، حيث هناك ضعف لناحية وجود مدربين غير متخصصين في العمل مع النشء، إذ غالباً ما يتمّ الاعتماد على لاعبين سابقين لتولي المهمة، ومعظمهم يستعملون الطرق التي تعلموها خلال مسيرتهم من دون مواكبة للطرق الحديثة. أما النتيجة فتكون الشحّ في تخريج المواهب، والدليل عدم القدرة على تقديم مهاجمٍ هداف للمنتخب منذ أعوامٍ طويلة، وكذلك بالنسبة إلى حارس مرمى على مستوى عالٍ، حيث إن معظم الحراس الأساسيين الذين تولوا المهمة في الفترة الماضية كانوا قد تأسسوا في الخارج. كما تضاف مشكلة أخرى، وهي غياب الهيكلية الفنية في الأندية، والتي تخلق تناغماً فنياً بين فرق الفئات العمرية والفريق الأول، حيث يفترض أن يستكمل اللاعب مرحلة التطوّر التي ترفع من مستواه، ما ينعكس إيجاباً على مردوده مع المنتخب. بطبيعة الحال، بدا الخلل الناتج من عملية البناء غير المرتكزة على أسسٍ صحيحة موجوداً في كل الخطوط، وقد غطاها المغتربون الذين بدوا بالشكل والمضمون يختلفون عن اللاعبين المحليين، وذلك كونهم كانوا قد نشأوا بطريقةٍ صحيحة.

البنى التحتية والأجانب
مما لا شك فيه أن البذور الجيّدة لا تثمر إلا من خلال زرعها في أرضية جيّدة، لكن هذه المسألة يصعب حصولها في لبنان بسبب المشاكل المعروفة في البنى التحتية الرياضيّة حيث المعاناة بين ملاعب العشب الطبيعي وتلك الخاصة بالعشب الصناعي الذي لا يعدّ من النوعية الجيّدة أصلاً ويعرّض اللاعبين للإصابات، تماماً كما حصل مع لاعبي منتخب لبنان. مشكلة الملاعب ليست كل شيء، فهناك في بلدانٍ أفريقية عدة لا وجود لملاعب ممتازة، بل إنه في بلدانٍ مثل السنغال وساحل العاج، تَخرج المواهب إلى أوروبا من ملاعب رملية. أما الفارق هنا، فهو أنها تصبح خارج حدود البلاد في سنٍّ مبكرة، فتصبح «المادة الأوليّة» في أيدي الأندية الأوروبية التي تعمل على صقلها في مصانعها التدريبية عبر عقلية تدريبية حديثة. هذه العقلية عينها تواجه عدم قبولٍ لها غالباً في الملاعب اللبنانية، أي عقلية المدرب الأجنبي، فكانت العبارة الشائعة بأن المدرب اللبناني يفهم أكثر اللاعب المحلي. وهنا وقعت المأساة في التخلي عن عددٍ من المدربين التطويريين طوال المواسم الأخيرة، ليُطرح السؤال: هل يفترض أن يرتقي اللاعب إلى مستوى المدرب القادم من الخارج، أم يفترض أن ينزل المدرب الى مستوى اللاعب؟
الواقع أن استيراد العقلية الحديثة إلى الكرة اللبنانية لا يمكن أن يتمّ إلا باستقدام المدربين الأجانب أو إرسال الأندية لمدربيها المحليين إلى أوروبا للتعايش مع أندية بارزة وجلب أفضل الطرق التدريبية، ما سينعكس إيجاباً على بطولة الدوري التي تعدّ مشكلة بدورها، فالدوري الضعيف لا بدّ أن يفرز منتخباً ضعيفاً. والمشكلة هنا في انحصار دائرة المنافسة في الدرجة الأولى بين فريقين أو ثلاثة على أبعد تقدير، وفي عدد اللاعبين الجيدين المؤهلين للعب في المستوى الأعلى. ومع غياب المال، تتعمق المشكلة الفنية في الدوري لناحية عدم التمكن من استقدام أجانب يرفعون من مستوى البطولة. ويتصل بهذه المشكلة غياب التسويق الفعلي للعبة، الذي من شأنه جلب المال إليها كما حصل في كرة السلة سابقاً.

الهروب من الاحتراف
تطلّ أيضاً مشكلة في القوانين وعلى رأسها تطبيق الاحتراف الذي يفرض على اللاعب العيش في نظام مثالي ينعكس عليه بدنياً وفنياً من خلال جوانب حياته اليوميّة. لكن العقد الاحترافي لا يكفي أن يكون مجرد ورقة، بل أسلوب حياة مختلفاً تماماً عن ذاك الذي يعيشه اللاعب المحلي، والذي جرّ أحياناً إليه الأجنبي القادم للاحتراف، فهبط مستوى الأخير بعد فترة، والأمثلة كثيرة على قدوم لاعبين أجانب إلى لبنان، بدأوا على مستوى عالٍ بدايةً، لكنهم سجلوا تراجعاً مخيفاً موسماً بعد آخر. وبين دعوات الاتحاد الآسيوي الى تحديث القوانين في الاتحادات الوطنية أو فرض شروط عليها في هذا الإطار لقبولها في عائلة المسابقات الآسيوية، وبين تحديثها في البلدان المتقدّمة بصورةٍ سنوية أحياناً، تبدو الأندية كأنها لا تريد نظام الاحتراف لأنه يفرض عليها التزامات تجاه لاعبيها الذين يُظلمون منها أحياناً، ويبدو الاتحاد موافقاً على هذه المسألة ومتجاهلاً لها لإدراكه بأن الشكاوى ستطفو في مكاتبه، وهو ما سيجلب إليه «وجع الرأس». وفي السياق عينه تغيب الهيكلية الصحيحة في الأندية لغياب ذوي الاختصاص في عددٍ كبير من إداراتها، ما يؤثر على إنتاج فرق ولاعبين بالمستوى المطلوب، إذ حتى دراسة للميزانية غير موجودة في أندية كثيرة، وهي التي تبدأ الموسم بميزانية معيّنة وتنهيه بميزانية أخرى!
الحصيلة أن تعريف المنتخب هو الخيارات الأفضل للاعبين الموجودين من كل النواحي التكتيكية والبدنية والبسيكولوجية. وكون لبنان لا يتمتع بهيكلية كروية صحيحة، لم يكن باستطاعة منتخبنا في كأس آسيا الذهاب أبعد في المشوار، وهو أمر لو حصل كان ليشكل مفاجأة فعلية للمتابعين عن كثب، والذين يصفون ما حصل بعبارة واحدة: «هذا ما صنعته أيدينا».