بعيد الثانية فجراً، أقلعت من بيروت، الطائرة التابعة لشركة «طيران الشرق الأوسط» التي تحط بعد تسع ساعات في مطار أبيدجان في ساحل العاج. بين الحين والآخر، يذكّر القبطان الركاب الذين سينزلون في مطار العاصمة الغانية أكرا، بموعد وصولهم قبل رفاقهم بساعة.
الرحلة ليست في «بوسطة» ولا في قطار، لكنها اتحاد رحلات وطنية في رحلة واحدة. الخط الرئيسي بيروت – أبيدجان الذي افتتح عام 1963 بعد استقلال ساحل العاج، ضُمّن عملياً في وقت لاحق، رحلات إلى مطار لاغوس في نيجيريا، ثم إلى مطار كانو بشكل إضافي، وإلى مطار أكرا، قبل أن تحط في النهاية في أبيدجان. وبشكل عكسي، تتكرر الدورة ذاتها لتحمّل الركاب بعد ساعتين مباشرة، من أبيدجان وأكرا او لاغوس.
بصوت عال، ينتقد أحد ركاب أبيدجان تحميل الرحلة ركاب دول أخرى. يشعر بأنهم «قاعدين على قلبه» بسبب اختناق الطائرة بهم عندما يكون عدد الركاب مكتملاً في مواسم الأعياد والعطل. فضلاً عن إهدار ساعة من الوقت، حيث يجبر على الانتظار في الطائرة ريثما تحط وتنزل الركاب في نيجيريا أو غانا. رفيقه يشاركه في انتقاد «الميديل إيست» التي «لا تكلف نفسها تخصيص رحلات إضافية للجاليات اللبنانية في أفريقيا الذين يعدون بالآلاف». يتدخل ثالث في الحوار، ليذكّر بأن تذكرة هذه الرحلة، تعد من بين الأغلى كلفة بالمقارنة مع خطوط الطيران الأخرى التي تسيّر رحلات إلى دول أكثر. «برغم ذلك يفضل اللبناني أن يستقل طيران الأرز» يقول راكب آخر «لكن الدولة لا تقدر ذلك وتوفر لنا في المقابل رحلات إلى مختلف الدول الأفريقية التي ينتشر فيها اللبنانيون». علماً بأن هذا الراكب لن يحط في أكرا أو أبيدجان، بل سيستقل طائرة ثانية من مطار أبيدجان لينتقل إلى ليبيريا، فيما قريبه يستقل طائرة من لاغوس إلى الكاميرون حيث يقيم.
يقطع الحوار بين الحين والآخر، بكاء الأطفال وصراخهم الذي يكاد لا يتوقف طوال الساعات التسع. في معظم الأحيان، تشكل العائلات المقيمة في أفريقيا، الجزء الأكبر من الركاب. وفي كثير منها، تكون الأم وحدها برفقة أولادها من دون زوجها. موعد الرحلة بعد منتصف الليل لا يناسب الأطفال حتماً. كما أنه يعكس إرهاقاً ليس على الركاب وحدهم، بل يبدو واضحاً على وجوه طاقم الرحلة من المضيفين والمضيفات. كثيرون يتأففون ويتذمرون. البعض يشكو المضيفة التي لم تلبّ طلبه بسرعة. وآخر يتذمّر من المقاعد غير المريحة. ضجيج وفوضى وزحام كأنها رحلة على متن «بوسطة». الرواق الذي يفصل بين المقاعد على الجانبين، يضيق على حركة الركاب وعلى الحقائب التي حملها البعض معهم ولم يتمكن من ضغطها تحت المقعد الضيق، فاضطر إلى ركنها في الطريق.
لشركة «الميديل إيست» مكتب إقليمي في أبيدجان. مديره جواد الموسوي يشرف على رحلات اللبنانيين في أفريقيا منذ عام 1991. استعراض طيران الأرز فوق القارة السمراء، يظهر أن رحلة أبيدجان الوحيدة كانت خلاصة تجارب عدة. في عام 1993، سيّرت الشركة رحلة «غير مربحة»: بيروت – داكار السنغال حيث يقيم آلاف اللبنانيين منذ أكثر من 150 سنة. معظم هؤلاء لم يحجزوا على الخطوط اللبنانية بل على خطوط أخرى توصلهم إلى فرنسا التي حصل كثير منهم على جنسيتها. فيما لا يحرص كثيرون على زيارة لبنان بشكل دوري. قبل ذلك، كانت رحلة بيروت- البرازيل تستريح في أبيدجان، فتنقل ركاباً من بيروت إليها وبالعكس. لكن الرحلة توقفت عام 1997. خلال زيارة الرئيس الأسبق ميشال سليمان إلى ساحل العاج قبل عام ونصف، طلب منه إعادة تشغيل الخط. أواخر عام 2010، افتتح رئيس مجلس إدارة «الميديل إيست» محمد الحوت خط بيروت – الكونغو كينشاسا الذي يخدم اللبنانيين المقيمين في أنغولا والكاميرون وغينيا بيساو والغابون. وبعد تسيير رحلة واحدة، ما لبث أن أوقف بطلب من السلطات المحلية. تردد حينها بأنه جاء تحت ضغط أميركي. إلا أن خط بيروت – الخرطوم السودان، لم يشهد تسيير أية رحلة حتى الآن برغم توقيع الاتفاقيات بين البلدين. أما بالنسبة إلى المنتشرين في الدول الأخرى، فإن أعدادهم المسجلة لديها لا تكفي لتخصيص رحلات خاصة بهم. لكن الشركة لجأت إلى خطط بديلة بعقد اتفاقيات تعاون مع شركات أخرى منها «إير فرانس» والخطوط البلجيكية لمنح الركاب اللبنانيين تذاكر بأسعار أقل، لكن برحلات غير مباشرة إلى بيروت.




الكارت الأصفر

قبيل وصول اللبنانيين المقيمين في ساحل العاج إلى مطار أبيدجان، أرفقوا سجلاً أصفر بجوازات سفرهم قبل النزول. إنه سجل صحي يفرض على كل مقيم يظهر اللقاحات التي تناولها ضد الأمراض. الإجراء ليس مستحدثاً بعد انتشار وباء «إيبولا» الذي لم ترصد له أية حالة بشكل رسمي، بل إنه معتمد منذ سنوات طويلة. وفي حال كان حامل السجل قد تخطى الموعد المحدد للقاحه، فإن فريقاً موفداً من وزارة الصحة يتولى الأمر. أما الوافدون، فإنهم يخضعون منذ سنوات أيضاً وبشكل إلزامي، لفحص لكشف ليس احتمال إصابتهم بـ«الإيبولا» فحسب، بل بأي مرض معد آخر.