بعد سلسلة من الغارات الصهيونية التي استهدفت مواقع إيرانية في سوريا، موقعة عدداً كبيراً من الشهداء والجرحى، جاء القصف الصاروخي الذي استهدف عدداً من المواقع العسكرية الصهيونية بشكل مباشر في الجولان المحتل. فهل يمكن اعتبار ذلك بداية تغيير في قواعد الاشتباك في سوريا؟رغم عدم صدور بيان رسمي عن سوريا أو إيران، فإن جيش العدو الصهيوني عبّر عن اقتناعه بأنّ الصواريخ التي استهدفت مراكز عسكرية صهيونية أساسية في الجولان المحتل هي إيرانية. وذهبت الاتهامات الصهيونية أبعد من ذلك، حين قالت إن قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، هو الذي قاد العملية بنفسه.
على مدى العامين الماضيين، شنّ العدو الصهيوني غارات عديدة ضد مواقع سورية ــ وإيرانية ــ في سوريا. تكثفت الغارات تحديداً منذ بدء اندحار الجماعات المسلحة وبداية تبلور توجه عالمي نحو ضرورة التوصل إلى حل سياسي في سوريا، تمثل في وجود مسارَي «جنيف» المدعوم من الغرب، و«أستانا» الذي تقوده كل من روسيا وإيران وتركيا. ومع كل إنجاز يحققه المسار الثاني، يشنّ العدو غارات جديدة وصلت خلال الأسابيع الماضية إلى حدّ استهداف مباشر لمراكز فيها إيرانيون، سواء في مطار «تي فور»، في ريف دمشق، أو «مطار 47» في ريف حلب.
يهدف العدو الصهيوني من وراء العدوان المستمر المتزامن مع التطورات السياسية والميدانية إلى تحقيق هدفين: الأول فرض نفسه شريكاً في أي محادثات تتعلق بمستقبل سوريا، تضمن له الإقرار باحتلال الجولان، والثاني تحجيم الدور الإيراني في سوريا، أو على الأقل ضمان إبعاد قوى المقاومة إلى أبعد مسافة ممكنة عن الحدود مع فلسطين المحتلة. وفي حين أنّ حكومة العدو لا تصرح بالهدف الأول، فإنّها تجاهر علانية بالهدف الثاني، وتحاول تسويقه على أنّه يندرج ضمن ما تعتبره حقاً لها لضمان أمنها القومي. الهدفان متلازمان بالضرورة؛ فإن نجح العدو في فرض هدفه الثاني، وإبعاد المقاومة عن الجولان المحتل، فإنّ ذلك يضمن له إقراراً، وإن غير معلن، باحتلال الجولان.
لا تخفي الصحافة الصهيونية عجز حكومة بنيامين نتنياهو عن إقناع الولايات المتحدة أو روسيا بالأهداف الصهيونية في سوريا. ورغم تصريحات نتنياهو المتكررة بعد كل زيارة لموسكو بالتوصل إلى تفاهم مع بوتين يضمن حرية الحركة في الأجواء السورية، فإن الوقائع على الأرض لا تؤيد ذلك. صحيح أنّ سلاح الجو الإسرائيلي يستمر في شنّ غارات ضد أهداف في سوريا، ولكن الصحيح أيضاً أنّ العدو تلقّى صفعتين خلال الأشهر القليلة الماضية: الأولى حين تمّ إسقاط طائرة «إف ــ 16»، نهاية آذار الماضي، والثانية حين قصفت صواريخ مواقع عسكرية لجيش العدو في الجولان المحتل بعد ساعات قليلة من زيارة نتنياهو لموسكو، التي قال إثرها، كالعادة، إنه يستبعد أن تحاول موسكو «الحد من عمليات إسرائيل العسكرية في سوريا».
ما يسمح بالمناورة في الجولان أنه منطقة محتلة مثلما كان جنوب لبنان


بالمثل، فشلت حكومة نتنياهو في إقناع البنتاغون بالتدخل لدى روسيا لأخذ أهدافها ومطالبها في سوريا بعين الاعتبار. وفي آخر جولة لوزير الأمن أفيغدور ليبرمان، شملت وزارة الدفاع الأميركية، حصل على التزام وحيد هو أنّ الولايات المتحدة ستدافع عن إسرائيل في وجه أي عدوان إيراني. بعبارة أخرى: لا رغبة أميركية في التورط في صراع عسكري مباشر ضد إيران في سوريا لتحقيق الأهداف الصهيونية فيها.
أكثر من ذلك: رغم حرب الإلغاء الشرسة التي يشنّها الرئيس دونالد ترامب ضد تركة سلفه باراك أوباما، التي تمثلت في استبدال النظام الصحي الأميركي المعروف باسم «أوباما كير»، ولاحقاً نقض الاتفاق النووي مع إيران، وتحميل إدارة أوباما المسؤولية عنه، فإنّ ترامب لم يمس ــ لغاية الآن على الأقل ــ الاستراتيجية الأميركية التي عرفت بـ«عقيدة الأطلسي»، وهي التي أقرّها أوباما، وبموجبها تحوّلت الأولوية الأميركية من الشرق الأوسط إلى المحيط الأطلسي لمواجهة المد الصيني، إذ يركز ترامب جهوده حالياً على كوريا الشمالية، وعلى الحرب التجارية مع الصين.
إذاً، لماذا تستمر الغارات الصهيونية ضد سوريا؟ يدرك قادة العدو العسكريون والسياسيون أن الغارات الجوية والقصف الصاروخي لن يغيّرا شيئاً في المعادلات الميدانية. فشلت استراتيجية الضربات الجوية في منع حزب الله من تطوير ترسانته الصاروخية، حتى في الفترة التي كان فيها العدو متفوّقاً، قبل عام 1996. كذلك فشلت في منع تعزيز المقاومة لقدراتها اللوجستية والصاروخية في قطاع غزة، المحاصر منذ أحد عشر عاماً، الذي يملك من القدرات والإمكانات أقل بكثير ممّا تملكه القوات الإيرانية في سوريا. ولذلك، يدرك العدو أنّ النتائج العملية والفعلية للغارات الجوية تساوي صفراً في الحسابات العسكرية، رغم ما تلحقه من تدمير وقتل.
مع ذلك، يطمح العدو، من وراء استمرار الغارات، إلى جرّ إيران إلى فتح حرب معه، ما يجرّ الولايات المتحدة إلى التدخل المباشر ضد إيران في سوريا. كذلك يراهن قادته على أن مزيداً من استهداف القوات الإيرانية وإيقاع أكبر عدد من الإصابات في صفوفها من شأنهما أن يستدرجا طهران ــ والمحور ــ إلى مواجهة واسعة، تجبر الولايات المتحدة على التدخل عسكرياً في المنطقة. لكنّ الرهان الصهيوني، على ما يبدو، لا يجد له آذاناً صاغية في الدوائر الأميركية. فالعدوان الثلاثي الذي استهدف سوريا في نيسان الماضي، تجنّب استهداف القوات الإيرانية والقوى الحليفة لها، ما بعث برسالة واضحة أن الولايات المتحدة ليست في صدد الدخول في صدام عسكري مباشر ضد إيران في المنطقة. ترافق ذلك مع إعلان ترامب عن قراره بسحب القوات الأميركية من سوريا، الأمر الذي يعني أنّ عقيدة الأطلسي لا تزال فعلياً هي المتّبعة لدى لإدارة الحالية.
من جهة أخرى، فوّت استهداف القصف الصاروخي مواقع في الجولان المحتل، دون قصف مواقع صهيونية في العمق الفلسطيني المحتل، على العدو إمكانية الادعاء بأنّه يتعرض لعدوان يهدّد وجوده. الجولان منطقة محتلة، تماماً مثلما كان جنوب لبنان طوال عقدين من الزمن، ما يسمح بالمناورة فيه من دون اضطرار الولايات المتحدة إلى التورط في حرب شاملة كرمى لعيون الحكومة الصهيونية، بل ألا يقرّ تصريح ليبرمان بأنه «لم تسقط أي صواريخ إيرانية داخل أراض تحت سيطرة إسرائيل» بأنّ المواجهة في الجولان لا تؤدي بالضرورة إلى مواجهة مفتوحة!
ما حدث في الجولان قد يتكرر، خاصة إذا ما استمر العدو في غاراته ضد سوريا، وبات عليه أن يعتاد ذلك. لكن المعضلة الكبرى التي يجب عليه مواجهتها تتعلق بالجبهة الداخلية: هل يتحمل العدو تسخين الجبهة الشمالية مع قوة عسكرية وازنة هي إيران نفسها، في وقت يعجز فيه عن مواجهة الطائرات الورقية في غزة، وأمام تحدٍ كبير تفرضه مسيرات العودة في غزة، وإمكانية توسع المسيرات إلى الحدود الفلسطينية مع لبنان والأردن؟
سارع ليبرمان إلى إعلان أنّ «هذا الفصل قد انتهى»، مثلما سارع الجيش إلى إعلان عودة الحياة الروتينية في المدارس والمزارع. والآن، سننتظر لنرى كيف سيؤثر كل ذلك في الهجرة المعاكسة من الكيان، والهرب إلى خارجه.
* باحث فلسطيني