يشكّل الكباش الروسي ـــ الإسرائيلي المستجد حلقة أساسية في ساحة صراع أوسع تدخل فيها واشنطن ودمشق وحلفاؤها. «تبريد الرؤوس الحامية» عبر تسليم سوريا منظومة «300 S»، بحسب تعبير وزير الدفاع الروسي، ينسحب أيضاً على الرؤوس في الإدارة الأميركية. سلسلة ردود موسكو الكلامية والعملياتية تُقرأ بإيجابية في أروقة دمشق وطهران، فكل عدوان جوي إسرائيلي كان عنوانه «إيران وحزب الله». أما اليوم، وإن وضعت روسيا قرار التسليم في إطار حماية جنودها، فإنه يمسّ حتماً حرية الحركة الإسرائيلية في الأجواء السورية، كما يؤسّس لما تخشاه تل أبيب: إعادة بناء قدرات الجيش السوري. هذا البناء هو ما عزّزته دمشق وطهران في الفترة الأخيرة عبر سلسلة اتفاقات عسكرية وُضعت على سكة التنفيذ. حلفاء دمشق يتصرّفون في هذا المجال بمعزل عن التصورات الروسية، فيما موسكو تعمل على أساس ترميم صورتها «المهشّمة» بعد إسقاط طائرتها، وهي تظهر أنها معنية أولاً بإظهار هيبتها وعلوّ كعبها في حرب تقترب من إنهاء عامها الثالث في تدخّلها المباشر فيها.لم تتأخر موسكو في ترجمة تعهّد الرئيس فلاديمير بوتين بتنفيذ خطوات «سيلحظها الجميع» لتعزيز أمن العسكريين والمنشآت الروسية في سوريا، على أرض الواقع، عبر الإعلان عن قرب تسليم منظومة «S-300» إلى القوات السورية بعد سنوات من المماطلة. الصفقة التي تمكنت إسرائيل من إحباطها مرات عدة، أحيتها حادثة سقوط الطائرة الروسية في شرقي البحر المتوسط، وسط تباين روايتي موسكو وتل أبيب في شأنها. الإعلان الروسي المختلف في طبيعته عن التصريحات السابقة حول تسليم المنظومة، جاء بإخراج لافت، إذ ترافق بيان وزارة الدفاع الرسمي مع اتصال بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد، قال خلاله بوتين إن بلاده سوف تعمل على تطوير الدفاعات الجوية السورية، وتسليمها منظومة «S-300» حديثة. وكان لافتاً في ضوء آلية هذا الإعلان أن الجانب الإسرائيلي الذي اتصل بموسكو بعده مباشرة، كان قد سوّق قبل أيام قليلة أن بوتين لم يردّ على اتصالات الأسد بسبب حادثة سقوط الطائرة. وتبنّت وزارة الدفاع الروسية أمس لهجة حادة تجاه إسرائيل، إذ أكد الوزير سيرغي شويغو أن الظروف التي دفعت بلاده إلى وقف التسليم في عام 2013 قد «تغيّرت... وليس بسببنا»، ملمّحاً إلى أن إجراءات روسية جديدة سوف تتبع في شرقي المتوسط من شأنها «إخماد الرؤوس الحامية». وعاد هذا الخطاب الموجّه إلى الجانب الإسرائيلي ليوضع في سياق أدق، في تصريح للمتحدث باسم الكرملين، قال فيه إن التسليم هو «إجراء يهدف إلى حماية القوات الروسية وليس موجهاً ضد طرف (دولة) ثالث». وبينما أكد وزير الدفاع الروسي أن تسليم «S-300» سيتم خلال أسبوعين، لفت إلى أن الطواقم السورية سبق أن أنهت تدريبات استعمالها قبيل وقف الصفقة في عام 2013، وهذا يتساوق مع معلومات عن أن عدداً من ضباط الدفاع الجوي كان قد استعد منذ أكثر من شهرين للتدرّب على منظومات دفاعية جديدة مع القوات الروسية.
تؤكد مصادر أن «فعالية المنظومة» ستتضح حين وصولها إلى يد الجيش


التصريحات الروسية أجمعت على وضع هذا الإجراء في سياق تأمين القوات الروسية العاملة في سوريا، إذ شرح شويغو أنه «سيتم تزويد مراكز التحكم ووحدات الدفاع الجوي السوري بمنظومة تحكم أوتوماتيكية (سلمت فقط إلى الجيش الروسي). وهو ما سيتيح تحكماً مركزياً بكل قوات وإمكانات الدفاع الجوي السورية، ومراقبة الأجواء، وضمان الإصدار الفعال للأوامر. والأهم، ستمكّن من تعريف جميع الطائرات الروسية على جميع أنظمة الدفاع الجوية السورية». وأكد أنه «سوف يتم التشويش على أنظمة الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية ورادارات وأنظمة اتصالات الطائرات الحربية التي تهاجم أهدافاً أرضية من الأجواء المحاذية لسوريا فوق البحر المتوسط». الحديث الروسي عن تسليم المنظومة وتطوير قدرة الدفاعات الجوية السورية والتشويش على الطائرات التي تستهدف المنطقة الساحلية، يشير بوضوح إلى أن النشاط العسكري الإسرائيلي وغيره فوق بعض المناطق السورية قد يصبح محدوداً وخطراً. غير أنه يثير في المقابل تساؤلات حول عدد تلك المنظومات والمناطق التي ستغطيها من السماء السورية وجوارها، وآلية تشغيلها ومركز قرارات تنشيطها واستهداف طائرات أو صواريخ معادية. وهي كلها تفاصيل من شأنها رسم تصور عن حجم الردع الذي قد تشكّله تلك المنظومة حين تصل الأراضي السورية، خاصة أن موسكو سبق أن توعدت في مناسبات عدة بتسليم المنظومة إلى سوريا، في سياق كباشها مع الولايات المتحدة الأميركية. ولهذا، لم تقتصر ردود الفعل على الجانب الإسرائيلي، بل امتدت إلى واشنطن، حيث قال مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون إن هذه الخطوة «الخاطئة» تشكّل «تصعيداً خطيراً».
التعليقات الأولية من الجانب السوري لم تكن جازمة حول تلك التساؤلات المطروحة، إذ اعتبر مصدر عسكري سوري، في حديث إلى «الأخبار»، أن «تسلّم سوريا المنظومة أثار حنق الإسرائيليين، لأنها ستؤثّر بشكل واضح على حرية حركة طائراتهم في الأجواء السورية. إلا أن ثمة العديد من المحدّدات، التي تتعلق بعدد وحداتها وانتشارها ونوع الذخائر، والتي من المهم الاطلاع عليها قبل الحديث عن قدرة المنظومة وفاعليتها». وذكّر في هذا السياق بأن «الاتحاد السوفياتي عندما زوّد الجيش السوري بمنظومة «S-200»، أبقى قرار تفعيلها بأيدي ضباطه، وهذا ما جعلها مقيّدة إلى حد كبير، قبل أن تصبح لاحقاً خاضعة بشكل كامل لأوامر الجيش السوري». وأكد أن تحديد «السقف الذي يضعه الروسي بخصوص تفعيل المنظومات الجديدة» يمكن بيانه «فقط عقب وصول السلاح الى يد الجيش». وبالتوازي، أشار مصدر في القوات الحليفة لدمشق في حديث إلى «الأخبار»، تعليقاً على الإعلان الروسي المستجد، إلى أن «القرار الروسي يصبّ في مصلحة المقاومة... ويبقى أن ننتظر وصول المنظومة إلى الجيش السوري، وهو ما يبدو جدّياً وقريباً جداً، وفق ما أبلغنا ضبّاط كبار في الجيش السوري». اللافت في حديث المصدر كان تأكيده في شأن تأثير القرار الروسي على الصراع مع إسرائيل، على أنه «لا يمكننا الركون إلى الوعود الروسية حتى وإن أصبحت خطوات فعلية، إذ نعتقد أن روسيا غير معنية بالصراع مع إسرائيل، وهي تحاول لعب دور الوسيط في المنطقة بين إسرائيل وأعدائها»، مضيفاً في الوقت نفسه أن «لروسيا مصالحها الخاصة التي يمكن أن نلتقي معها في الكثير من الأحيان، إلا أننا نملك وجهات نظر متباينة بوضوح في الشأن الإسرائيلي». كما أكد أن المنظومة الروسية يمكنها «حسب مواقع نشرها» تغطية عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، غير أن «التجربة أثبتت أن روسيا تدرس كل خطوة يمكن أن تؤثر على أمن إسرائيل. ويجب علينا أن نفكر بخط منفصل لترسيخ معادلة جوية جديدة». ورغم «التفاؤل» الذي يبديه المصدر، فإنه أوضح أن «العمل جار بالتنسيق مع الجيش السوري لتطوير وبناء قدرات دفاعية متقدّمة، بمعزل عن الإجراءات الروسية الجديدة»، لافتاً إلى أن «اتفاقية التعاون العسكري الموقّعة أخيراً بين إيران وسوريا تتضمن بنودها العمل على تطوير القدرات الصاروخية لدى الجيش السوري، وحماية مصانع هذه الصواريخ ومخازنها، عبر أنظمة دفاع جوي إيرانية». وشدد على أن «قرار بناء قدرات دفاعية تسهم في تضييق هامش سلاح الجو الإسرائيلي، اتخذ منذ مدة، ولكن دونه عقبات كثيرة تقنية وأمنية وغيرها».