«النصرة» ترتّب أوراقها من جديد
تسلّط التفاصيل المذكورة ضوءاً إضافيّاً على «المنهجيّة» التي تتعاطى عبرها «تحرير الشام» مع اتفاق سوتشي، وهي منهجية براغماتيّة تتوخّى «التمايل مع الريح». وكان البيان الأخير الذي أصدرته «الهيئة» قد تجنّب الإشارة إلى موقف واضح من «سوتشي» فلم يُعلن رفضاً، ولا موافقة، لكنّه حرص في الوقت نفسه على الحديث عن عموميّات «جهاديّة» تتوخّى التشديد على أنّ دور «الهيئة» في المشهد السوري مستمر. وخصّ البيان مسألة «المهاجرين» («الجهاديين» غير السوريين) ببندٍ جاء ثانياً في ترتيب ما تضمنه من بنود، دلالةً على المخاوف التي تستشعرها «الهيئة» من انعكاسات «سوتشي» عليها، ولا سيّما في ما يخصّ تسرّب «المهاجرين» إلى تنظيمات متطرّفة أخرى. وبرغم أنّ بعض الوسائل الإعلاميّة كانت قد تداولت أخيراً أنباءً عن «انشقاقات واسعة للمهاجرين عن الهيئة»، ولا سيّما ما اصطُلح على تسميته «الجناح المصري»، فإنّ معلومات «الأخبار» تشير إلى أنّ ما حصل هو تلويح بالانشقاق فحسب، وترافق مع تعليق بعض «الشرعيين والعسكريين» عضويتهم في صفوف «الهيئة» في انتظار «جلاء الصورة». ويبدو أنّ زعيم «جبهة النصرة/ تحرير الشام» أبو محمد الجولاني قد أفلح في نيل «فرصة» زمنيّة جديدة لاحتواء مفاعيل قراره مماشاة أنقرة في شأن «سحب السلاح الثقيل»، بعدما أفرز ذلك القرار ملامح انشقاقات كادت تطاول «المجلس الشرعي العام» (راجع «الأخبار»، 28 أيلول 2018). وتوضح المؤشّرات المتوافرة أنّ «استراتيجيّة» الجولاني في المرحلة المقبلة تقوم على «القفز إلى الأمام»، وتتوخّى العمل على «إعادة رص الصفوف»، والإفادة من فرصة «وقف إطلاق النار» التي يوفّرها اتفاق سوتشي لإعادة ترتيب الأوراق، ولا سيّما في ما يتعلّق بالعنصر «المهاجر».
«حرّاس الدين» يصول ويجول
متسلّحاً بـ«شرعيّة» منحه إيّاها رفضه العلني لـ«اتفاق سوتشي»، أفلح تنظيم «حرّاس الدين» في الحصول على اعتمادات مالية جديدة، تُضاف إلى رصيدٍ سابق كان قد حصّله قبل شهور (راجع «الأخبار» 18 تموز 2018). وخلافاً للتمويل الماضي الذي كان ذا صبغة «عسكريّة» بحتة، تأتي الاعتمادات الماليّة الجديدة في مقابل تكثيف التنظيم المتطرّف «أنشطته الدعويّة»، والعمل على «بناء الروح الجهاديّة لدى الأشبال». وحتى الآن لم تصل «الأخبار» إلى معلومات مؤكّدة حول مصدر الاعتمادات الجديدة، لكنّ هناك مؤشرات كبيرة على وجود دور أساسي للسعودي عبد الله المحيسني في «تأمينها». وسجّل التنظيم المتطرّف نشاطاً متزايداً على صعيد «الإعداد العقائدي للأشبال»، مع تركيزه في صورة أساسيّة على الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين 14 و16 عاماً. واستحدث التنظيم مجموعة متفرّغة لهذا النوع من الأنشطة، أطلق عليها اسم «مركز دعاة التوحيد الدعوي». رفع «المركز» شعار «وحرّض المؤمنين» للمرحلة الراهنة من أعماله، وباشر على الفور في العمل وفق منهجيّة تقوم على الذهاب إلى الأطفال والمراهقين بدلاً من انتظار قدومهم إليه. وفي خلال الأسابيع الماضية قام «دعاة المركز» بزيارات مفاجئة لعدد من أماكن تجمّع الأطفال والمراهقين، وجمعهم في حلقات والخوض معهم في أحاديث عن مخاطر «اللهو والانصراف إلى الدنيا»، وحثّهم بدلاً من ذلك إلى «التركيز على الدين والعقيدة وفهم فضائل الجهاد». وعلمت «الأخبار» أنّ «الدعاة» يحرصون في ختام تلك «الحلقات الطيّارة» على تقديم مبالغ ماديّة للأطفال، ووعودٍ بأنّ «من يحرص على دينه ينَل مكاسب في الدنيا والآخرة». ومن بين مناطق التجمّع المستهدفة يركّز «الدعاة» على الأراضي الترابيّة التي يستخدمها الأطفال للعب كرة القدم، وصالات ألعاب الفيديو. وحتى الآن يتحاشى «الدعاة» إطلاق تسمية «جهاديّة» على تلك الحلقات، ويكتفون بدلاً من ذلك بالقول إنّها «جلساتٌ شبابيّة». وسُجل أكبر رصيد من هذه الأنشطة في مناطق ريفي إدلب الجنوبي الشرقي، والشمالي الشرقي، ومن بينها قرى مطلّة على الطريقين الدوليين «M4» (أوتوستراد حلب، اللاذقية) و«M5» (أوتوستراد حلب، دمشق). ويكتسب هذا التفصيل أهميّة إضافيّة، لأنّ إعادة فتح الطريقين المذكورَين جزء أساسي من «اتفاق سوتشي». وبالتوازي، لوحظ نشاط متزايد للتنظيم المتطرّف في مدينة إدلب نفسها، عبر «حلقات وملتقيات دعويّة» تركّز على «استمرارية الجهاد» وتُعقَد في المساجد وقاعات بعض المقارّ، مستهدفةً مختلف الشرائح العمريّة من الذكور، مع التركيز على الأطفال واليافعين.
«الحسبة» تنشط من جديد
«اتركوا البيع وتفرّقوا لذكر الله، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين». يتردّد هذا النداء عبر مكبّرات صوت جوّالة مثبتة على سيارات «جهاز الحسبة» التابع لتنظيم «حرّاس الدين» أربع مرّات في اليوم مع مواعيد الصلاة (باستثناء صلاة الفجر). وبرغم أنّ هذه الظاهرة ليست جديدة على كثير من مناطق إدلب التي تحتلّها التنظيمات المتطرّفة، فإنّها قد استعادت نشاطها في مناطق كانت قد غابت عنها. يختصّ «جهاز الحسبة» بمهمات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وعلمت «الأخبار» أنّ «الجهاز» التابع لـ«حرّاس الدين» قد اتّخذ قراراً بتحاشي «إقامة الحدود» في المرحلة الرّاهنة حال ارتكاب أحد السكّان مخالفة، والاستعاضة عن ذلك بالتأنيب والوعيد ومنح فرصة أخيرة للمخالف، على أن يُنفَّذ «الحدّ» في بعض الحالات التي تُصنّف المخالفة فيها «من الكبائر» مع توخّي الحرص من شيوع أنباء «إقامة الحدود» على نطاق واسع. وتقتصر سياسة «التستّر» المذكورة على مسألة «إقامة الحد» فحسب، من دون تطبيقها على «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وعلى العكس من ذلك، فقد حرص التنظيم على تصوير أشرطة لعمل «سيارات الحسبة» وعرضها على نطاق ضيّق، بما يضمن اطلاع «المموّلين» وعناصر التنظيم عليها. وبدا لافتاً أنّ التنظيم قد اختار تاريخ 15 تشرين الأوّل الجاري (الموعد المفترض لتطبيق المرحلة الأولى من اتفاق سوتشي) لبثّ أحد تلك الأشرطة على نطاق ضيق، ويعرض جولة تقوم بها إحدى سيارات «الحسبة» في مدينة سراقب.
«تحرير الشام» تغازل «جهاديي إيران»!
في سياق نشاطها المستجدّ لـ«ترميم الثقة» بينها وبين «المهاجرين»، استحدثت «هيئة تحرير الشام» قسماً إعلاميّاً مخصّصاً لمخاطبة الناطقين باللغة الفارسيّة، أطلقت عليه اسم «قادسيّة». وخصّصت «الهيئة» أحد بواكير إصداراتها لـ«حركة مهاجري أهل السنّة» الإيرانيّة. و«الحركة» المذكورة واحدة من «الكتائب» التابعة لـ«تحرير الشام»، أُحدثت في العام الجاري. وسُجّل أول حديث علني لـ«تحرير الشام» عنها في شهر آذار الماضي حين كشفت معرّفات «جهاديّة» تابعة لـ«الهيئة» عن مشاركتها في معارك ريف حماة. ويُعدّ الإصدار المصوّر الذي نُشر أخيراً أوّل إصدار مرئي يتخذ منها موضوعاً أساسيّاً، وباللغة الفارسيّة. وخُصّص الإصدار لـ«نعي الشهيد مولوي عبد الكريم البلوشي»، وكان المذكور يشغل منصب «عضو مجلس الشورى لحركة مهاجري أهل السنة» الإيرانيّة، وهو أحد قتلاها في معارك ريف حماة الشمالي. وعلاوةً على الحديث عن البلوشي، اهتمّ الشريط بالحديث عن «الجهاد في الشام» والأحاديث النبويّة التي تشير إلى «فضل الشام»، و«مظلوميّة أهل السنّة في إيران».