لا يبدو الانحدار الحاصل في مهنة الطب مستجدّاً، ولا يتعلق بسوريا وحدها من بين البلدان، بل إن تحوّله إلى تجارة في جميع اختصاصاته أضحى اتهاماً قديماً، لا سيما الاختصاص التّجميلي، أوسع مجالات التلاعب والاحتيال. حتى إن بعض ممتهني التّجميل يزاولون الكثير من تقنياته الخطرة، رغم عدم حيازتهم على شهادة في الطب. والغالب تحوّل الأطباء من اختصاصيي الجلد إلى إجراءات مقاومة الشيخوخة والحفاظ على الشباب، وزراعة الشعر، أو إزالته بالليزر. في حين نال الجراحون حصة الأسد من عمليات يتنافسون في الحصول عليها، بذات الوتيرة التي تمضي بالنساء إلى أسرّة غرف العمليات، للخضوع إلى إجراءات النحت والتكبير والقص والكثير من صيحات الجراحة التجميلية التي نسمع عنها بشكل متلاحق. نسخ كربونية لوجوه تتكرر ملامحها البلاستيكية الخالية من أي حياة أو رونق، هكذا حال النساء اليوم. وإن كان للحرب والضغط النفسي المرافق لها دور في هذه المظاهر، فإن اللافت أن المواد التجميلية لم تُفقد من السوق الطبية ولم تتأثر بالحصار المفروض، أسوة بالأدوية الأُخرى.

وتقع على الأطباء مسؤولية كبرى في مواجهة هذا الانحدار، على اعتبار أن بعضهم باتوا «نجوماً» في مجال التجميل. ويجمع الأطباء رغم اختلاف أسلوب كل منهم ورأيه، على أن سوريا تملك عنصر جذب في مجال «السياحة الطبية»، بالنسبة إلى المغتربين والوافدين من دول الجوار، لا سيما العراقيين واللبنانيين، على اعتبار أن الإجراءات التجميلية رخيصة الكلفة بالنسبة إليهم، بسبب فوارق سعر صرف العملات.

لا نجومية... بل «انتقائية»!
يعتبر طبيب الأمراض الجلدية المعني الأساسي بالشأن التجميلي في كثير من جوانبه، إذ إن طب الجلد التجميلي يحتاج إلى تأهيل وتدريب تراكمي مبني على العلوم الطبية، بحيث لا يمكن لأي كان أن يكتسبه بمجرد حضور دورات قصيرة أو ورش عمل مختصرة. هكذا تفضّل الطبيبة فوز حسن، مناداتها باختصاصها «طب أمراض الجلد» الذي يشمل التجميل، بدلاً من توصيف «طبيبة تجميل»، رغم مواكبتها تطور طب الجلد التجميلي بالحقن والأدوية التي تخفي معالم الشيخوخة. ومع ذلك تعتبر حسن أنه «لا يمكن لطبيب الأمراض الجلدية أن يكون معزولاً عن العمل على أجهزة الليزر، بما يخدم المجال الطبي العلاجي والتجميلي». وإذ تحصر الأستاذة الجامعية مزاولة هذه الإجراءات بأطباء الجراحة والجلدية فقط، تشير إلى مسؤولية تتحملها النقابات في التغاضي عن الممارسات غير القانونية، وسبل الدعاية التي يقويها رأس المال. وحول نجومية بعض الأطباء في الشارع السوري تقول: «لا أسعى إلى النجومية. وأفضّل العمل الانتقائي، الذي أقدم فيه الفائدة العلاجية والتجميلية للمريضة، معتمدة على ثوابت النوعية والجودة». وتضيف أنه «مع ارتفاع كلفة المواد الجيّدة وأجهزة الليزر ذات الجودة العالية يصبح الحفاظ على أسعار معقولة للسوريين، ضمن تحديات مهنتنا».

اتحاد العلم والفن!
تغيّرت مفاهيم الجمال التي عرفها المجتمع على زمان جدّاتنا وأمهاتنا، بشكل صارخ. شفاهٌ مثل «الفستقة»، بحسب المصطلح الشامي القديم، صارت من عيوب الوجه هذه الأيام. وبات الحنكُ العريض الذي كانت تتطيّر منه الجدات أثناء رحلة البحث عن «كنّة ناعمة»، صار مطلب السيدات لدى جرّاحي التجميل. عظام الخد البارزة والشفاه الغليظة المنفوخة والذقن المبوّزة المطعّمة بتقنيات غريبة وفق تسميات متداولة، إضافة إلى وشم الحواجب المتطايرة... كلّها ملامح الجمال المصطنع الوافد إلى البلاد، بما تتطلبه التجارة الجديدة. عملية وراء أُخرى أو تشويه وراء آخر، يدفع بعض الجرّاحين إلى تصحيح أخطاء زملائهم أحياناً، مع عدم القدرة على استعادة الحالة الطبيعية لمظهر المريضة. وهذا يفسّر المبالغة في تصغير أنوف الفتيات. تشويهٌ ناجم عن أخطاء جراحية أحياناً، ترسّخ بوصفه عنصراً جمالياً صناعياً تلجأ أخريات إلى تقليده. هذا الإجراء الجراحي يرفضه الطبيب عادل عمار، الذي يعي خطورة مثل هذه الحالات على المجرى التنفسي، فيلجأ إلى نمط مختلف من العمل الجراحي التجميلي قائم على خصوصية كل وجه وما يناسبه. يحمّل عادل عمار المسؤولية الأولى في التشوهات التجميلية للفضائيات وسائر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في غسل أدمغة المتابعين وزرع نماذج مشوهة للجمال. التجميل بالنسبة إلى الطبيب السوري العائد من دراسته في ألمانيا قبل سنوات الحرب هو اجتماع العلم مع الفن، وهو يرفض القيام بأي إجراء تجميلي غير ملائم للمريضة، أو جراحي له أضرار وظيفية، مهما كانت المغريات، مع شرح الأخطار والآثار الجانبية.

الفقراء أيضاً!
لا تقتصر الإجراءات التجميلية على النساء الثريات، اللواتي يصرفن آلاف الدولارات في عيادات التجميل، بل إن رواج ذلك لدى جميع الشرائح بما فيها الفقراء، خلق معادلة مأسوية. مفارقة غريبة مثلاً أن تأخذ ميرا، الفتاة العشرينية، المعاش الشهري لعريسها العسكري في الجيش، بهدف دفع تكاليف جلسة الليزر، متحمّسة لإجراء شد الوجه عبر حقن «البوتوكس» أيضاً. «من أجل أن يراني بأبهى حُلّة، عندما يحضر لقضاء إجازته»، تقول ميرا. المواظبة على الإجراءات التجميلية تتطلب مزيداً من المال، ما يعني تراكم الديون على نساء غير آبهات بالعائق المادي، إضافة إلى الضغط المرافق على الأطباء لاستخدام مواد بتكاليف رخيصة، ما يفسّر التشوهات والاستنساخ الذي نراه في الشوارع. تعزو الطبيبة الاختصاصية في الأمراض الجلدية ديمة إبراهيم هذه التشوهات إلى أن الحقن بات موجوداً في صالونات التجميل، بلا أي مراقبة أو محاسبة، ما يضيف صعوبات إلى عمل الطبيب تتمثل في تصحيح الأخطاء والاختلاطات الناجمة عن الحقن الذي لا يراعي قواعد العلم والسلامة. فيما ترى أن تدهور الحالة الاقتصادية لم يؤثر في العمل التجميلي بسبب إفراز الحرب طبقة جديدة قادرة على دفع متطلبات التجميل المادية. وتضيف إبراهيم أن «إجراءات الليزر والبوتكس والفيلر فتحت أمامنا آفاق علمية جديدة لنزيد الجمال وليس تشويهه. وهو ما علينا أن نقوم به يومياً مع مراعاة تلبية رفع سوية الذائقة الجمالية».

عالم الأجهزة التجميلية!
في عيادة الطبيب حيدر حسن في دمشق، يصعب العثور على أي آثار سلبية للحرب، كمثال حيّ على ازدهار التجميل خلال السنوات الماضية. حسن الذي يوصف بأكثر الأطباء المتكيفين مع ظروف البلاد، كتقنين الكهرباء مثلاً، أوجد حلولاً مُكلفة للإبقاء على تشغيل الأجهزة التجميلية المتنوعة. وعن مجال زراعة الشعر يفاجئنا باهتمام السوريين بالنتائج الطبيعية المتعلقة بالشكل العام والعدد المزروع، أكثر مما يأبهون للتكاليف المرتفعة، ما يكشف الحالة المادية للمرضى الذين يتوجهون إلى عيادته. وبينما يشير حسن إلى أن تخفيض الكلف أحياناً يؤثر على جودة المواد التجميلية ونتائجها، بما فيها الخيوط والمواد المالئة، يستغرب وجود عيادة جلدية من غير أجهزة الليزر المواكبة لأحدث الإصدارات العالمية والمتوافرة لحل أي مشكلة جلدية أو حالة مرضية. رأي الطبيب يأتي على رغم تباين نتائج هذه الأجهزة بين مريض وآخر، مقارنة مع النتائج الجراحية السريعة. وتشاطره الرأي زوجته الطبيبة ديالا نعوس التي أسست معه عيادة ثانية في اللاذقية، فلا تجد غنى عن العمل على مواكبة أجهزة الليزر في إزالة الشعر والندب التي تسببها الجراحة وحب الشباب والترهّلات الجلدية.

جراحة البدانة
بالتوازي مع فورة الاهتمام بالمظاهر كان لجراحة البدانة، أو ما يسمى بالجراحة الاستقلابية التي تُجرى لتصحيح الأمراض الناتجة من البدانة، حصتها من هذه الفورة أيضاً. غير أن الإقبال على هذا النوع من العمليات تناقص خلال الحرب بسبب الارتفاع الكبير في الكلفة، ليعود إلى النشاط مجدداً، بحسب ما يشير الطبيب همام جعبري اختصاصي جراحة البدانة. ويشرح جعبري ما يتعرض له الجراحون من مطالبات أشخاص غير بدينين بإجراء جراحات إنقاص الوزن، في الوقت الذي يجب مراعاة شروط معينة. ويذكر من الجراحات التي رفض إجراءها، جراحة قطع معدة طولي بالتنظير لشخص وزنه 77 كيلوغراماً، وطوله 180 كلغ، يريد إنقاص وزنه إلى 55 كلغم، للعمل في مجال عرض الأزياء. ويرى أن من المنطقي استقطاب سوريا السياحة الطبية في المنطقة، بسبب تقديم أفضل الخدمات الطبية بأرخص الأسعار على مستوى العالم. ويوضح أن «كلفة إجراء قطع معدة طولي بالتنظير أو ما تعرف بتدبيس المعدة أو SLEEVE، على المريض تتراوح بين ما يعادل 1600 إلى 2000$، أي ما يعادل أقل من نصف تكاليف العملية ذاتها في بلدان أخرى».