لا تعدّ سوريا من بين البلاد الغنية بالنفط، لكنها رغم ذلك كانت قادرة على تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي بالمشتقات النفطية، مع تحقيق وفورات مالية من هذا القطاع. بدأ الواقع بالتغير منذ عام 2012، لأسباب ترتبط بخروج الحقول النفطية عن سيطرة الدولة، وبالعقوبات الغربية. اليوم، تعيش البلاد أزمة خانقة للأسباب ذاتها، مع تضييق خناق العقوبات أكثر فأكثر. ورغم أن الأزمة الراهنة على موعد مع «انفراج وشيك» مقترن بطرح المادة بـ«السعر العالمي»، فإن الحاجة إلى البحث عن سبل لضمان عدم تكرارها تبدو شديدة الإلحاح.

قبل أسبوع، كان وزير النفط والثروة المعدنية السوري، علي غانم، يؤكد أن «مادة البنزين متوافرة على مدار الساعة»، وأن «هناك انحساراً تدريجياً للازدحام على محطات الوقود». أمس، وصل الازدحام على محطّات الوقود ذروته في معظم المحافظات السورية، الأمر الذي ترافق مع انخفاض في حركة السير في الشوارع الرئيسة لمعظم المدن، ولا سيما العاصمة دمشق، إلى حدّ يكاد يفوق ما عرفته الشوارع نفسها في ذروة المعارك على أبواب العاصمة قبل سنوات خلَت. وكانت الوزارة المعنية قد بشّرت، قبل يومين، بأن «الأزمة في طريقها إلى الانحسار في غضون عشرة أيام»، من دون الإفصاح عن آلية الحل الموعود. وبات من المسلّم به أن الاختناقات مرتبطة إلى حدّ كبير بتشديد العقوبات الأميركية التي تمنع توريد المشتقّات النفطية إلى البلاد، علاوة على جملة أسباب «غامضة»، أو بنحو أدقّ لا يرغب أحدٌ في الإفصاح عنها رسمياً.
اللافت، هو غياب الحديث عن إنتاج الآبار السورية الخارجة عن سيطرة دمشق، وهو إنتاج غير كافٍ في كل الأحوال لسدّ جميع حاجات البلاد، لكنه كفيل إلى حد كبير بتضييق الفجوة الحادة بين العرض والطلب. ومنذ سنوات ما قبل الحرب، كانت سوريا تصدّر جزءاً من إنتاجها النفطي، وتستورد في المقابل بعض المشتقات النفطية لأسباب تتعلق بنوعية النفط السوري، المنقسم إلى «خفيف» و«ثقيل». وبدأ نزيف النفط السوري منذ العام 2012، مع بدء خروج حقوله عن سيطرة الدولة، ولا يزال مستمراً حتى اليوم (راجع «الأخبار» 18 كانون الأول 2018). ومن المعروف أن عدداً من أهم حقول النفط السورية تقع اليوم في المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» في دير الزور والحسكة. ولم يمنع هذا الواقع وصول جزء من الإنتاج النفطي لتلك الحقول إلى مصفاتَي حمص وبانياس، عبر قنوات غير رسمية.

«وساطة إماراتية» متعثرة؟
وسرت قبل أكثر من شهر أنباء غير مؤكدة عن تغير في مسار الأمور المرتبطة بملف النفط، بسبب ضغوط أميركية على «الإدارة الذاتية»، أفضت إلى «إيقاف الأخيرة كل التوريدات النفطية إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية». ويذهب بعض المرويات المتداولة على نطاق ضيق إلى الربط بين إيقاف ضخ النفط السوري إلى مناطق سيطرة الدولة السورية، وتعثّر «وساطة إماراتية» عُرضت على دمشق، تتضمن في ما تتضمن «تنظيم العلاقة بين الإدارة الذاتية ودمشق في إطار لا مركزي محدود»، علاوةً على تفاصيل أكبر تتعلّق بـ«الحضور الإيراني في سوريا، وعودة دمشق إلى الجامعة العربية، واستعداد عدد من دول الخليج لتقديم تعويضات مالية لطهران».

لم تكن مفردة «أزمة» حاضرة في قاموس الجهات المعنية بملف الوقود قبل أسبوع


في المقابل، ثمة أنباء تناقض جذرياً الحديث عن توقف ضخ النفط من مناطق سيطرة «قسد»، وتشير خلافاً لذلك إلى «تطورات إيجابية مرتقبة». وامتنعت مصادر سورية عديدة عن الخوض في أي حديث مرتبط بما سبق، الأمر الذي تكرر حين طرحت «الأخبار» الأسئلة ذاتها على عدد من مصادر «مجلس سوريا الديمقراطية» و«الإدارة الذاتية». واكتفى «الرئيس المشترك» لـ«مسد»، رياض درار، بالقول إنه لا يمتلك أي معلومات حول ملف النفط. وعلى نحو مماثل، قال المتحدث باسم «العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية»، كمال عاكف، إن «الإدارة الذاتية لا تريد التعليق على موضوع النفط».

«انفراجة مؤكدة»؟
تكتفي مصادر عاملة في قطاع النفط السوري الرسمي بالتأكيد أن هناك «انفراجة قريبة للأزمة الحالية». وإذا ما صحّ كلامها، فإن الانفراجة تبدو حتمية الحدوث بالفعل، وبصورة تتجاوز حل الأزمة الراهنة، إلى ضمان عدم تكرارها في المدى المنظور. ولا يعكس تفاعل الشارع السوري مع أنباء «الأزمة النفطية» ثقة بأن الوعود قابلة للتحقق، لا سيما أن مفردة «أزمة» لم تكن حاضرة في قاموس الجهات المعنية بالملف قبل أسبوع، بل كان الإصرار كبيراً على أن ما تشهده البلاد «اختناقات مؤقتة بسبب الإشاعات». وأعلنت «وزارة النفط»، أمس، عن «إجراءات مؤقتة للحد من ظاهرة الازدحام»، مؤكدة أنها تأتي بهدف «توزيع البنزين بعدالة على جميع أصحاب الآليات». وكشف الإعلان عن «مخصصات محددة» قوامها 20 ليتراً كلّ خمسة أيام للسيارات الخاصة بمختلف أنواعها، و3 ليترات كل خمسة أيام للدراجات النارية بمختلف أنواعها، و20 ليتراً كل 48 ساعة لسيارات الأجرة (تاكسي). بدوره، كشف «مدير المكتب الصحافي في وزارة النفط»، أخيل عيد، عن دخول البنزين بالـ«السعر العالمي» إلى الأسواق السورية. وقال عيد، في تصريح إذاعي، إنه «تلبية للمطالب بتأمين مادة بنزين ــ أوكتان 95، ستقوم الوزارة خلال اليومين المقبلين بافتتاح محطتين في دمشق لبيع المادة بالسعر العالمي».

هل قلت «استراتيجية»؟
ثمة مشكلة أساسية تطرح نفسها لدى الحديث عن قطاع الطاقة السوري في السنوات الأخيرة، وخلاصتها أن «حساب السوق لا ينطبق على حساب الصندوق». وتجدر في هذا السياق الإشارة إلى أن بيانات «وزارة النفط» كانت قد لفتت قبل عامين إلى أن إنتاج النفط السوري «سيرتفع عام 2018 إلى 105 آلاف برميل يومياً، وإلى 221 ألف برميل في عام 2019». أما على أرض الواقع، فكان وزير النفط يشير قبل خمسة أيام إلى أن إنتاج البلاد حالياً هو «24 ألف برميل يومياً»، أي بفارق يقارب 200 ألف برميل عما توقعته الوزارة قبل عامين!



دمشق و«الإدارة الذاتية»: مكانك راوح؟
الأزمة النفطية المتجددة تعيد إلى دائرة الضوء ملف المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد»، ومسار المفاوضات المتعثرة بين دمشق و«الإدارة الذاتية». وتعيد المصادر الحكومية هذا التعثر إلى «رضوخ قسد للضغوطات الأميركية» في الدرجة الأولى، فيما تكرر «الإدارة الذاتية» تأكيد «انفتاحها على الحوار مع دمشق». المتحدث باسم «العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية»، كمال عاكف، يقول لـ«الأخبار» إن «النظام ينظر إلى الواقع في سوريا على أنه يماثل ما سبق ولم يتغير فيه شيء، ولا يزال التعامل بعقلية ما قبل 2011، وهذه مشكلة كبيرة». يكرر المتحدث تأكيدات دأبت «الإدارة الذاتية» على طرحها في الإعلام، حول ضرورة «تفعيل الحوار لأنه سبيل الحل الوحيد». في الوقت نفسه، يشير عاكف إلى وجوب «الانفتاح على التغيرات التي حصلت في سوريا، خاصة في الشمال والشرق، وما شهداه من انتصار على الإرهاب، وهو انتصار لعموم الشعب السوري». ويضيف: «ننتظر من الحكومة السورية التعامل مع هذه المعطيات على أنها أرضية مهمة للانطلاق نحو الحل والاستقرار، خاصة أن شمال وشرق سوريا يشكلان أرضية لتحول ديمقراطي يحقق طموحات الشعب السوري، ويحافظ على الوحدة السورية».