تثير قضية المفقودين في سوريا وجعاً مشتركاً عابراً للانقسام السياسي ولخطوط الصراع؛ إذ تتشارك أسرٌ مختلفةُ المواقف والانتماءات، في الداخل والخارج على السواء، ألم الفقدان ومرارة الانتظار لأقرباء وأصدقاء اختفوا خلال الحرب، ولا يُعرف مصيرهم إلى اليوم. ويكاد هذا الوجع يُختصر بمشهدَين عالقَين ربّما في أذهان معظم السوريين: أوّلهما تجلّى في عام 2018، عندما كانت مئات العائلات تنتظر في دمشق وصول أبنائها المفقودين في الغوطة الشرقية بعد سيطرة الحكومة السورية على هذه الأخيرة، لكنهم عادوا أدراجهم محمَّلين بالسؤال نفسه: ماذا حلّ بأنجالنا؟؛ وثانيهما عام 2022، عندما وقفت مئات العائلات أيضاً تحت جسر الرئيس في العاصمة دمشق، بحثاً عن إجابة عن السؤال المتقدّم «ما غيره»، بعدما أقرّت السلطات السورية عفواً عاماً شمل لأول مرّة الجرائم الإرهابية، لكنهم تلك المرّة أيضاً عادوا خالي الوفاض.وتقدّر الأمم المتحدة أعداد المفقودين في سوريا بحوالي 100 ألف شخص، اختفوا في مناطق مختلفة من البلاد وعلى مراحل. فعلى سبيل المثال، ثمّة مدرّسون مدنيون اختُطفوا أثناء ذهابهم إلى أعمالهم في المناطق الساخنة عامي 2011 و2012، ولا يُعرف مصيرهم إلى الآن. وهناك العشرات من الأطفال والنساء الذين فُقدوا في ريف اللاذقية ولم يعودوا إلى ذويهم أيضاً، ومعارضون ومسلّحون مفقودون لم يتمكّن أهلوهم من معرفة ماذا حلّ بهم، على رغم مضيّ 12 سنة على اختفاء بعضهم. وإلى جانب أولئك، يأتي المفقودون إبّان سيطرة تنظيم «داعش» على مناطق واسعة من شمال شرق سوريا، وما بعد انتهاء تلك السيطرة.

آلية دولية لكشف مصير المفقودين
أقرّت الأمم المتحدة، في حزيران الماضي، آلية دولية لكشف مصير المفقودين في سوريا، عارضتها دمشق وكذلك بعض القوى المعارضة للسلطات السورية ومنظمات حقوقية تعتقد بأولوية ربط الآلية بالمساءلة والمحاسبة لمرتكبي جرائم الإخفاء القسري، وهو ربط لا توافق عليه المنظّمة الدولية التي ترى أن هذه الآلية اختصاصها كشف المصير فقط، من دون المساس بحقوق الآخرين في المضيّ في مسار المساءلة. وتقول إحدى الناشطات اللواتي عملن على تلك المبادرة، لـ«الأخبار»، إن الأخيرة «جاءت نتاج مناصرة طويلة قامت بها روابط عائلات المختفين قسراً في سوريا، وجميع هذه الروابط مقارّها خارج سوريا ومعظم أعضائها من النساء»، مضيفةً إن «مساعي تأسيسها حظيت خلال السنوات الماضية بدعم من ذوي المفقودين وبعض الدول، وأثمرت في نهاية الأمر وصول الملفّ إلى الأمم المتحدة التي أقرّت في اجتماعها المذكور آلية تضمّنت إنشـاء مؤسسة دولية جديدة عن طريق الجمعية العامة، مكرَّسة لتوضيح مصير المفقودين وأماكن وجودهم في سوريا، وتقديم الدعم الكافي للضحايا الناجين وأسر المفقودين، وضمان حق الأسر في معرفة مصير أقاربها».
أقرّت الأمم المتحدة، في حزيران الماضي، آلية دولية لكشف مصير المفقودين في سوريا


وترى الناشطة أن «قرار تشكيل الآلية نصّ على جزئية مهمّة تمثلّت في شمل أسر المفقودين بعملها، بحيث يكونون ممثَّلين بشكل كامل ومجدٍ، وهذا يعني أن على الآلية إيجاد طريقة للوصول إلى ذوي المفقودين الذين يعيشون داخل سوريا وليست لديهم روابط أو جمعيات متخصصة تساعدهم وتعمل معهم على كشف مصير أبنائهم»، مضيفةً إن «ذلك كلّه يتطلّب تعاون مختلف الأطراف، الأمر الذي يعدّ من أكبر التحدّيات التي تواجهها الآلية؛ فمن دون تعاون السلطات في مختلف المناطق السورية، لا يمكن الوصول إلى المعرفة التي تتطلّب إجراء تحقيقات وتقديم بيانات ومعلومات وتسهيلات لن يكون من السهل الحصول عليها إن لم تَطمئن هذه الجهات إلى أن التعاون لن يقود في نهاية الأمر إلى المساءلة والمحاسبة».

غياب الآلية الوطنية
يأتي صدور الآلية الدولية لكشف المصير، والتي ترفضها دمشق، في ظلّ غياب آلية وطنية لحلّ هذه المشكلة التي تؤرّق آلاف العائلات منذ ما يزيد على عقد من الزمن. ودأب الأهالي، منذ سنوات، على اختلاف انتماءاتهم، على مراجعة وزارة المصالحة الوطنية، وتقديم بيانات عن أبنائهم المفقودين، من المدنيين والعسكريين المعارضين للسلطات أو الموالين، لديها، من دون أن يحصلوا في أيّ مرّة على نتيجة. ومع ذلك، فقد مثّلت هذه الآلية بالنسبة إليهم القشّة التي يُبقون من خلالها الأمل قائماً في نفوسهم. وقبل 5 سنوات، تمّ تحويل الوزارة إلى هيئة مصالحة وطنية استمرّت في العمل بالطريقة نفسها وبزخم أقلّ، إلى أن تمّ إلغاؤها عام 2020، ليضحي الناس بهذا عُراة من أيّ جهة واضحة يمكن أن يراجعوها أو يلجأوا إليها. وعلى رغم أن «لجنة الأمن القومي في مجلس الشعب»، والتي ليس لديها مقرّ واضح بالمناسبة، تستقبل بعض طلبات الاستفسار عن مفقودين وتأتي أحياناً بإجابات لأصحابها، إلّا أن غياب آلية وطنية واضحة وشاملة للتعامل مع هذا الملفّ، سيصعّب ويبعّد معالجته أكثر فأكثر، وخصوصاً أن ثمّة قرابة 100 ألف شخص مجهولو المصير.