حتّى اليوم، لا تزال عبارة أحد أساتذة علم الاقتصاد في جامعة دمشق قبل حوالي عقدين من الزمن، والتي قال فيها إن ارتفاع سعر البندورة في مدينة القامشلي من شأنه أن يرفع أسعار العقارات في مدينة دمشق، سارية المفعول. إذ على الرغم ممّا سبّبته سنوات الحرب الطويلة من متغيّرات باعدت الأقاليم السورية - لجهة تواصلها الجغرافي، وتبعيتها الإدارية، ومواردها وثرواتها، والسياسات والإجراءات الاقتصادية المطبقة فيها -، إلا أن تلك الأقاليم كافة، سواء الخاضعة لسيطرة الحكومة أو الخارجة عنها، تعتمد سعر صرف يبدو متقارباً، وتتأثر جميعها بانخفاضه أو ارتفاعه. وهذا ما يطرح تساؤلات عن الأسباب التي تقف خلف هذه الظاهرة، علماً أن الحدود الفاصلة بين المناطق السورية ليست سوى حدود مواجهة قد تتغيّر في أي لحظة. ولعلّ التساؤلات نفسها تثيرها أيضاً معدلات التضخم التي بدت متقاربة وفقاً لنتائج مسح أجراه «المركز السوري لبحوث السياسات»، للفترة الممتدة بين شهرَي تشرين الثاني وحزيران 2022، إذ سجّل وسطي التضخم الشهري لأسعار المستهلك في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة حوالي 5.4%، وفي مناطق الشمال الخاضعة لسيطرة «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) والفصائل المدعومة تركياً حوالي 4.6%، وفي مناطق ما يُسمّى بـ«الإدارة الذاتية» حوالي 4.8%. وعليه، فإن وسطي التضخم الشهري لعموم سوريا سجل خلال الفترة المذكورة حوالي 5.4%.

تضخّم محلي ومستورد
تقوم حالياً على الأرض السورية أربعة اقتصاديات (اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، اقتصاد المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد»، اقتصاد إدلب، واقتصاد المناطق التي تحتلها تركيا في الشمال والشرق)، تبدو معزولة عن بعضها البعض، بحكم أن الحدود الفاصلة بينها هي عبارة عن جبهات قتال بين الجيش السوري وحلفائه من جهة، والفصائل المسلحة والقوات الأميركية والتركية من جهة ثانية، بالإضافة إلى أن كلاً منها يعتمد سياسات أو إجراءات خاصة بها، وإن كانت في النهاية تصبّ في خانة «اقتصاديات الحرب».
وبينما تتأثّر هذه المناطق بعضها ببعض بدرجات مختلفة، يبقى تأثر المناطق الواقعة في الشمال والشرق أكثر وضوحاً بما تشهده مناطق سيطرة الحكومة من متغيرات اقتصادية؛ فمثلاً، ارتفاع أو انخفاض سعر صرف الليرة في هذه الأخيرة سرعان ما يصيب الاقتصاديات الثلاثة الأخرى، بنسب مختلفة، وكذلك حال التضخم، الذي يسير بخطى متسارعة في المناطق كافة. ومن هنا، تعاني الأقاليم السورية كافة من المشكلات عينها تقريباً، كانتشار معدلات الفقر، وانعدام الأمن الغذائي، وتراجع مستوى الخدمات العامة، وتدنّي العملية الإنتاجية، وخسارة الكوادر البشرية.
الحدود «المؤقتة» التي رسمتها المعارك العسكرية بين المناطق لم تتمكّن من عزلها بعضها عن بعض اقتصادياً


وبحسب ما يراه الباحث في «المركز السوري لبحوث السياسات»، ربيع نصر، فإن «تأثر المناطق السورية بتقلبات سعر الصرف أمر طبيعي، بالنظر إلى أن مناطق شمال شرق البلاد (الخارجة عن سيطرة الحكومة) لا تزال تستخدم العملة السورية، وتالياً فهي تتأثر بشكل مباشر بإجراءات وتوجهات السياسة النقدية التي يضعها المصرف المركزي، تماماً كما تتأثر سوريا بتطورات سعر صرف الدولار عالمياً، وبالإجراءات التي تتخذها مثلاً السلطات النقدية الأميركية». أمّا بالنسبة إلى مستويات التضخم المسجلة في الاقتصاديات الأربعة، فيرجِعها نصر، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أمرين: «الأول، أن هناك تبادلاً سلعياً كبيراً بين مناطق سيطرة الحكومة والمناطق الخاضعة لسيطرة ما يسمى الإدارة الذاتية بشكل مشروع أو غير مشروع، وتالياً فإن هذه المناطق تتأثر في ما بينها لجهة معدلات التضخم المسجلة في الاقتصاد الأقوى والأكبر». أما السبب الثاني، بحسب نصر، فيكمن في «اعتماد مناطق شمال غرب البلاد للعملة التركية في تعاملات سكانها عوضاً عن الليرة السورية، وهو إجراء أدى إلى استيراد تضخم مجنون تعاني منه تركيا منذ حوالي عامين، فكانت النتيجة تأثر تلك المناطق بالتضخم التركي، ونقله أيضاً إلى مناطق سيطرة الحكومة بحكم التبادل السلعي».
وممّا يجدر التذكير به، هنا، هو أن الأوساط الاقتصادية لطالما حذّرت من خطورة ما تعلنه «هيئة الإحصاء» التركية سنوياً من ارتفاع قيمة صادراتها إلى سوريا، والمقدّرة بأكثر من 1.8 مليار دولار، فيما عملياً دمشق متوقفة منذ عام 2012 عن استيراد أي منتجات تركية، وما تعتبره أنقرة صادرات ليس سوى سلع مهربة يتم إدخالها إلى مناطق الشمال الغربي، ومن ثم يتسرّب جزءٌ وفيرٌ منها إلى مناطق سيطرة الحكومة.

وفقر أيضاً
خلافاً للاعتقاد الشعبي السائد في مناطق سيطرة الحكومة، فإن الأوضاع المعيشية في المناطق الخارجة عن سيطرتها ليست بأفضل حال، على رغم استحواذ سلطات الشمال الشرقي على ثروات البلاد النفط والزراعية، وعلى الرغم أيضاً من علاقة سلطات الشمال الغربي المتميزة مع أنقرة. إذ تشير معظم المؤشرات الإحصائية إلى الانتشار الكبير لمعدلات الفقر في جميع المناطق، بما فيها تلك التي تسيطر القوى النافذة فيها على 93% من ثروة البلاد النفطية. فمثلاً، تظهر التقديرات البحثية غير الرسمية أن نسبة الفقر الشديد قُدّرت في محافظة الحسكة نهاية عام 2019 بحوالي 70%، والرقة 74%، ودير الزور 84%، وإدلب 79%، وحلب 77%، وريف دمشق 69%. وتتقارب معدلات الفقر هذه على رغم تباين متوسط الأجور، والناجمة أساساً عن اعتماد بعض المناطق على الليرة التركية أو الدولار في تسديد رواتب العاملين فيها، فيما الأجور في مناطق سيطرة الحكومة و«الإدارة الذاتية» لا تزال بالليرة السورية.
ووفق ما تشير إليه تقديرات «المركز السوري لبحوث السياسات» في دراسة نشرت «الأخبار» مضمونها سابقاً، فإن تحليل التفاوت ضمن كل منطقة سيطرة يُظهر أن مناطق «الإدارة الذاتية» سجّلت أعلى معدل تفاوت، حيث بلغت نسبة تفاوت الأجور في المحافظات الواقعة تحت سيطرتها ما يقرب من 11.4 ضعف، لتأتي بعدها مناطق الحكومة السورية بنسبة 9.8 أضعاف، ومن ثم مناطق «الحكومة المؤقتة» و«حكومة الإنقاذ» بنسبة 9.3 أضعاف. أما مقارنة تفاوت الأجور بحسب قطاع التشغيل، فتُظهر أن القطاع العام هو الأعلى تفاوتاً بتسجيله 16 ضعفاً، يليه القطاع الخاص بـ14 ضعفاً، ومن ثم القطاع المدني بـ12 ضعفاً.
بالنتيجة، يبدو واضحاً أن الحدود «المؤقتة» التي رسمتها المعارك العسكرية لم تتمكّن من عزل المناطق السورية بعضها عن بعض اقتصادياً، وخصوصاً أن «قوى الأمر الواقع» لم تنجح في إقرار سياسات وإجراءات تخفّف من معدلات التضخم، أو تقدّم نموذجاً اقتصادياً وتنموياً قابلاً للحياة.