لا تزال خسائر زلزال السادس من شباط، الاقتصادية والاجتماعية، موضع تجاذب سياسي وبحثي، ولا سيما أن البيانات المحلّية الصادرة في هذا الشأن، اقتصرت على تقدير أوّلي لحجم الخسائر الحاصلة في الأرواح، كما في الأبنية السكنية، فضلاً عن ضبابية الأساس العلمي الذي استُند إليه في تصدير التقديرات، سواء من قِبَل المنظّمات الأممية والدولية، أو الجهات المحلّية المختلفة. وفي تقريره الذي حصلت «الأخبار» على نسخة منه، ويَصدر اليوم، يقدّم «المركز السوري لبحوث السياسات» رؤية تحليلية لآثار الزلزال المباشرة وغير المباشرة على المستوى الوطني، وتبعاً للمناطق المتضرّرة من جرائه، مستنداً، في تقديراته الإحصائية، إلى تقييم الوضع العام الذي سبق الكارثة، وإلى مسح ميداني نفّذه خبراؤه، وشمل المحافظات الأربع التي ضربها الزلزال.
عشرة آلاف وفاة
بناءً على الأرقام والبيانات الصادرة عن أكثر من جهة في أعقاب الزلزال، يقدّر المركز عدد الوفيات بين السوريين، سواء في المناطق المتضرّرة أو من المقيمين في تركيا، بنحو 10659 وفاة، منها حوالى 4267 وفاة في تركيا (40%)، وباقي الوفيات البالغة نحو 6392 داخل البلاد، مشكّلين بذلك ما نسبته 60%. وقد توزّعت الخسائر البشرية على 1,935 وفاة، و3,450 إصابة في مناطق سيطرة الحكومة، وباقي الوفيات في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل مسلّحة مختلفة. ومن شأن هذا العدد الكبير من الوفيات، التسبُّب في تراجع توقّع الحياة بشكل حادّ في المجتمعات المتضرّرة.
جغرافياً، تركّز الأثر الأكبر للزلزال في مناطق شمال غرب البلاد، وبشكل خاص في محافظة إدلب، حيث بلغ عدد الوفيات حوالى 2,985، فيما شكّلت حارم المنطقة الأكثر تضرُّراً في هذه المحافظة. أمّا على مستوى المدن، فقد عانت مدينة جنديرس في ريف حلب ضرراً هائلاً، حيث سجّلت وحدها نحو 1100 وفاة. ووفق المركز، يتبّين من تحليل الأثر الجغرافي للزلزال على كامل الجغرافيا السورية، أن «شدّة أضرار الزلزال تركّزت في منطقة حارم التابعة لمحافظة إدلب، وهي الأعلى ضرراً، تليها عفرين وجبل سمعان بالدرجة نفسها تقريباً، ويأتي في المرتبة الثالثة منطقتَي جبلة ومدينة اللاذقية، وفي المرتبة الرابعة منطقة الغاب في شمال محافظة حماة». ومع تضرُّر مئات الوحدات السكنية بشكل كامل أو جزئي، فقد اضطرّ ما يقرب من 170 ألف شخص للنزوح عن منازلهم ومناطقهم داخل البلاد، فيما تفيد التقديرات الأولية باضطرار عشرات الآلاف من السوريين المقيمين في تركيا للنزوح بسبب الزلزال. وتشير تقديرات المركز إلى أن 155 ألفاً من النازحين كانوا في شمال غرب البلاد، و15.6 ألفاً في مناطق سيطرة الحكومة. وقد انضمّ جزء كبير من نازحي الزلزال إلى مخيّمات الإيواء التي كانت قائمة أصلاً، بينما أُنشئت أخرى جديدة (بشكل خاص في عفرين وحارم) لاستيعاب الأعداد الكبيرة من النازحين الجدد، علماً أن هؤلاء عانوا من نقص الخيام والغذاء والتدفئة على مدى الأيام الأولى للزلزال. وكما أن آثار الزلزال تختلف بحسب المناطق، فإنها لم تكن متماثلة بين النساء والرجال؛ إذ ضاعفت الكارثة من معاناة النساء، وهو ما تمثّل في بقائهنّ في العراء مع أسرهنّ لأيام عدّة في ظروف قاسية: طقس بارد جدّاً، ونقص في المستلزمات الطارئة، فضلاً عن عدم قدرتهنّ على الوصول إلى مرافق ودورات المياه المناسبة.

90 ألف فرصة عمل
إلى جانب الخسائر الاقتصادية، التي يتخوّف في حالة الكوارث الطبيعية من ديمومة منعكساتها لسنوات طويلة، لم يحصر المركز اهتمامه فقط بالأضرار التي لحقت بالأبنية السكنية، وإنّما حاول تتبّع الأثر المحتمل على سوق العمل ومعدّلات الفقر والأمن الغذائي. وبصورة عامّة، يقدّر المركز إجمالي الخسائر الاقتصادية المباشرة نتيجة الزلزال، بنحو 5.85 مليارات دولار، تشمل الأضرار التي لحقت بمخزون رأس المال من مبانٍ سكنية وتجارية وخدمية وبنى تحتية وتجهيزات ووسائل نقل (قُدّرت قيمتها بنحو 2.23 مليار دولار)، بالإضافة إلى خسائر الناتج المحلّي الإجمالي، حيث تُظهر المؤشّرات تراجعه، خلال عام 2023، بنحو 2.2%، ولتشكّل بذلك الخسائر المباشرة للزلزال حوالى 33% من الناتج المحلّي الإجمالي لعام 2022.
وكما هو متوقّع، فقد تركّزت الخسائر على مستوى المناطق المتضرّرة في إدلب أولاً بحوالى 60% من إجمالي الخسائر، تليها حلب بحوالى 34%، ثم اللاذقية 4%، وحماة 2%. وفي هذا الإطار، تُظهر تقديرات المركز أن عدد الأبنية المتضرّرة كليّاً أو جزئيّاً في مجمل أنحاء سوريا، بلغ حوالى 12,795 بناءً، منها 2,691 تعرّضت لدمار كلّي. وقد نالت محافظة إدلب النصيب الأكبر من الأبنية المتضرّرة بما يقرب من 46.6%، كما تركّز فيها العدد الأكبر من الأبنية المهدّمة بشكل كلّي (1,252 بناء). وكانت مناطق حارم وسلقين والدانا وأرمناز من بين المناطق الأكثر تضرّراً في إدلب، تلتها مناطق ريف حلب الشمالي بما يقرب من 34% من إجمالي الأبنية المتضرّرة، منها 630 بناء مدمّراً بشكل كلّي، وتركّزت في مدن جنديرس وصوران والأتارب، في حين بلغ عدد الأبنية المتضرّرة في مدينة حلب 997 بناءً، تعرّض أكثر من نصفها للدمار الكامل.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 66% من الأبنية التي تعرّضت لدمار كلّي في مدينة حلب تركّزت في أحياء حلب الشرقية كالسكري وبستان الباشا والفردوس والشعار والصالحين وطريق الباب والكلاسة. أمّا في محافظة اللاذقية، فقد بلغ عدد الأبنية المنهارة 225 بناءً، معظمها في مدينة جبلة الساحلية، في حين كانت الأضرار في محافظتَي طرطوس وحماة أقلّ نسبياً.
يقدّر المركز إجمالي الخسائر الاقتصادية المباشرة نتيجة الزلزال، بحوالى 5.85 مليارات دولار


وتأكيداً على الأثر العميق للزلزال، تَخلص النتائج البحثية إلى أن هناك خسارة أولية في فرص العمل يصل عددها إلى أكثر من 90 ألف؛ وتالياً، يُتوقّع ارتفاع معدّلات البطالة بحوالى 1.8نقطة مئوية، فيما ارتفع معدّل التضخّم بنسبة 5.7% على المستوى الوطني. وهنا، تشير نتائج دليل أسعار المستهلك الذي يصدره «المركز السوري لبحوث السياسات» إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية بشكل كبير على مستوى جميع المحافظات التي تعرّضت للزلزال، ليُراوح التضخّم الغذائي فيها بين 8.6% و9.4% بعد الزلزال. وقد حقّقت مدينة حلب أعلى معدّل تضخّم غذائي بنسبة 12.6%، مقارنةً بريف حلب الذي حقّق أدنى معدّل تضخّم غذائي بنسبة 5%. ويلاحَظ ارتفاع أسعار اللحوم على أنواعها، كما أسعار البقوليات، وكذلك، ارتفاع أسعار السكن والمياه والوقود في كلٍّ من اللاذقية ومدينة حلب وحماة بنسبة 3.2% و4% و7.3% على التوالي، فيما كان الارتفاع طفيفاً في ريف حلب (0.8%)، وإدلب (1%).
ونتيجة لتراجع الناتج المحلّي وارتفاع الأسعار، تذهب التوقعات نحو الجزم بارتفاع معدّلات الفقر بمستوياته الثلاثة؛ إذ يُرتقب أن يسجّل الفقر المدقع ارتفاعاً بحوالى 10.5 و3.8 و0.4 و0.1 نقطة مئوية في كلّ من إدلب، حلب، حماة، واللاذقية؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى معدّلات الفقر الشديد التي سترتفع بحوالى 4.6 و1.9 و0.04 و0.2 نقطة مئوية في المناطق نفسها. أمّا معدّلات الفقر العام، فارتفاعها سيكون بمقدار 2.3 و1.1 و0.02 و0.2 نقطة مئوية في هذه المناطق.