لا يزال التوجّس الحكومي كبيراً من استخدام مصطلح «المجتمع المدني»، إلى درجة أنّ محرر الأخبار الرئيسة في أيّ وسيلة إعلام رسمية اعتاد استبدال مصطلح «المجتمع الأهلي» بالمصطلح المذكور، وهذا ما تفعله أيضاً كبار الشخصيات الرسمية في البلاد. لا بل إن هناك من ينظر إلى المجتمع المدني على أنه مرتبط دائماً بأجندات خارجية، وعليه، فإن هؤلاء يصفون من يعارضهم في الأفكار والمواقف بأنهم من «جماعة المجتمع المدني»، فيما يستمرّ الغموض محيطاً بالمفهوم لدى شرائح شعبية واسعة، مثيراً حالة تخوّف من التعامل مع مؤسسات هذا المجتمع وشخصياته، وحائلاً دون توسّع أنشطتها وفعالياتها. ومع ذلك، فإن الحراك السياسي والاجتماعي المحلّي والدولي، الباحث عن حلّ للأزمة المستمرّة منذ عام 2011، أسهم في تعزيز حضور قوى المجتمع المدني ونشاطها في البلاد، بالاستفادة من عاملَين أساسيَين: الأول، تساهل الحكومة مع نشاط هذه القوى ومحاورتها إياها أحياناً ودعمها بعضها أحياناً أخرى بغية استقطابها، على خلاف ما كان سائداً قبل الأزمة؛ والثاني، إشراك الأمم المتحدة والقوى الدولية فعاليات وشخصيات من المجتمع المدني في الجهود الرامية إلى توسيع دائرة الحوار بين مختلف أطياف المجتمع، بحثاً عن حلّ للأزمة الكارثية التي لا تزال تعانيها البلاد.
بعيداً عن السلطة
تطلق قوى المجتمع المدني السوري تعريفاً خاصاً بها، يسعى من جهة لتسكين هواجس السلطة، ومن جهة ثانية لتوسيع مساحة عمل تلك القوى وحضورها. فالمجتمع المدني، بأبسط التعاريف، كما يبيّن رئيس «حركة البناء الوطني»، أنس جودة، عبارة عن «القوى والأفراد التي تجتمع بإرادتها لتحقيق غايات خاصة وعامة عبر التنظيم والمناصرة والضغط، ولا تسعى للوصول إلى السلطة، وتعدّ النقابات والاتحادات والمنظمات غير الحكومية أحد أهمّ تجلياتها». إلّا أن هذا التعريف لم ينهِ الجدل الدائر حول المصطلح وغاياته، وخاصة في ظلّ حضور مؤشّرَين أساسيَين: الأوّل، يتمثّل في أن بعض قوى المجتمع المدني كانت حاضرة على طاولة النقاشات السياسية؛ والثاني، تزايد عملية التمويل الخارجي لفعاليات وأنشطة تلك القوى في الداخل، وهو ما زاد من الشكوك المثارة حيال غايات مؤسساتها وفعالياتها. وبحسب ما يقول جودة في تصريحه إلى «الأخبار»، فإن «مفهوم المجتمع المدني ارتبط في الحالة السورية بالتطورات السياسية، ودُمج بالمسار السياسي منذ ما سُمّي بربيع دمشق إلى الربيع العربي، وخصوصاً بعد أن أصبح جزءاً أساسياً في عمل مكتب المبعوث الدولي، وأيضاً بسبب ظهور عدد كبير من المنظمات السورية التي يتمّ تمويلها ودعمها لتقديم الخدمات الإنسانية والتنموية بداية، ولاحقاً القيام بأبحاث ودراسات والعمل في مناطق معيّنة دون أخرى». ويضيف جودة أنه «قابلَ هذا التوجّه إصرارٌ من الجانب الحكومي على اعتماد مصطلح المجتمع الأهلي للتعريف بالجمعيات والمؤسّسات التي تقوم بالأعمال الإغاثية والخيرية ولاحقاً التنموية، وإخراج بقيّة المنظّمات كالنقابات والاتحادات والغرف من ذلك التعريف كونها ما زالت تندرج عرفاً تحت تعريف المنظمات الشعبية».
تطلق قوى المجتمع المدني السوري تعريفاً خاصاً بها، يسعى من جهة لتسكين هواجس السلطة، ومن جهة ثانية لتوسيع مساحة عمل تلك القوى وحضورها


على أن مشكلة المجتمع المدني السوري لا تتعلّق فقط بموقف السلطة منه، ونظرتها إلى ما يقوم به وتالياً مستقبله، وإنّما هناك مشكلات متعلّقة ببنية عمله والظروف التي وجد فيها وتأثيرها على توجّهاته وأولوياته. وللباحث زيدون الزعبي رأي خاص هنا يوضحه بالقول: «يشغل المجتمع المدني المكان الذي لا تستطيع الدولة شغله عادة، وفي المساحة بين الفرد والدولة والسوق. هذه حال الدول المستقرّة، والتي تتوافر فيها ديموقراطية راسخة. أمّا في حالة بلاد كبلادنا، فالمجتمع المدني ولد مشوّهاً، وهو بحاجة إلى عقود كي يتنازل عن مكاسب لا يستحقّها في مناطق، ويحقّق مكانته التي يستأهلها في مناطق أخرى. وتالياً، فإن فهمه لهذا الدور المتوازن هو أساس قدرته على القيام به بفاعلية وكفاءة. وحتى ذلك الوقت، يتعيّن عليه النضال كي يَفهم هو ويُفهِم باقي الأطراف أهمية هذا الدور».

مخاوف ما بعد التمويل
تُتّهم شخصيات المجتمع المدني ومؤسّساته، أو على الأقلّ بعضها، بالعمل على تنفيذ أجندة خارجية بشكل مباشر أو غير مباشر. فالمساعدات الفنّية والمالية الخارجية المقدَّمة إلى تلك المؤسسات، من خارج إطار القنوات الحكومية، هي برأي بعض الشخصيات والجهات الرسمية والحزبية، لا بدّ وأن يكون لها مقابل. لكن كما يرى رئيس «حركة البناء الوطني»، فإن «معالجة هذه المخاوف لا تكون بإغلاق الباب أمام الأنشطة المجتمعية ومحاولة تقييدها وتحجيمها، لأن هذا التوجّه بكلّ بساطة سيزيد من مساحات العمل غير الشرعي والخفيّ ويقلّل من مساحات العمل المنتج». ويضيف أن «للدول والمنظّمات أجنداتها، ويجب أن تكون لدينا توجّهاتنا، فاليوم لا يمكن القيام بالتنمية بأيدٍ مقيّدة أو بجهود حكومية فقط، وخلال فترة الحرب، ولاحقاً في الكوارث الطبيعية، أصبح واضحاً مدى أهمية الدور المجتمعي في تحقيق التنمية»، متابعاً أن «هناك حاجة أساسية إلى الانتقال إلى صيغة جديدة للعلاقات تقوم على أساس المشاركة المجتمعية بعيداً عن أحادية التوجّه. وعندما تكون الأمور واضحة ومنظّمة، تضيق مساحة التدخّلات ويخفّ أثر الارتباطات نتيجة وجود فواعل مدنية أخرى قادرة على موازنة التوجّهات والسرديات المختلفة».
ويبدو تحقيق مثل هذه المعادلة ضرورياً في ضوء ما تمرّ به البلاد من ظروف صعبة، وما ينتظرها من تحدّيات لا قدرة للحكومة وحدها على مواجهتها، وهو ما يفرض برأي الزعبي إجراء مقاربة جريئة لدور الدولة، على اعتبار أن «الدور المتوازن للمجتمع المدني يحسمه ويحكمه الدور المتوازن للدولة؛ فإذا أرادت الدولة، وأريد لها، أن تلعب دورها المنوط بها، والذي يعني إدارتها المباشرة للخدمات الأساسية، وفي جميع المناطق، فإن الدور الأساسي للمجتمع المدني يكمن في مفهوم الديموقراطية التداولية، أي في الحشد والمناصرة والتنظيم المجتمعي ومراقبة أجهزة الدولة. أمّا في حالة انحسار الدولة أو تغوّلها، فسيكون دور المجتمع المدني ملء الفراغ في الأولى، ومحاولة منع التغوّل في الحالة الثانية». ويلفت الزعبي إلى أن «هذه الحالات الثلاث تتوافر في جغرافيات سوريا المختلفة، بحسب حالة السلطات فيها، إذ يتحوّل المجتمع المدني من مزوّد الخدمات الأساسي في شمال غرب وشمال شرق، بسبب غياب أجهزة الدولة شبه الكامل فيها، إلى محاولة حفر مكان له في مناطق سيطرة الدولة السورية، حيث يسعى إلى مقاومة تغوّل أجهزة الدولة في المجتمع».