بات واضحاً أن الخطاب الرسمي بدأ يَنظر اقتصادياً إلى مرحلة ما قبل الحرب، بطريقة مختلفة عمّا اعتاد المواطن السوري سماعه. فتلك المرحلة لم تكن مثالية على الإطلاق، إذ شهدت عدداً من الأخطاء التراكمية على مستوى السياسات والإجراءات، والتي يعود بعضها إلى عقود سابقة. وبهذا المعنى، فإن الحرب لم تنشئ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها البلاد حالياً، وإنّما «ظهّرتها»، وفقاً لما يذهب إليه وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، سامر خليل، محمّلاً السياسات السابقة جزءاً من المسؤولية عمَّا آلت إليه الأوضاع في سوريا. ويتزامن هذا التحوّل في مضمون الخطاب الرسمي، مع انطلاق ورش حوار على مستوى الجامعات والنقابات والمنظّمات، لمناقشة مستقبل دور الدولة في كل المجالات، والسياسات المقترحة لبلورة دور جديد لها لا يَنسف المرحلة السابقة بشكل كامل، لكنه في الوقت ذاته لا يشكّل امتداداً لها، في ظلّ متغيّرات محلّية (تركة الحرب وآثارها العميقة) وعالمية (تداعيات النزاعات على الأسواق والاقتصاديات الدولية).
الأَولى بالمراجعة
حتى وقت قريب، قلّة هم الذين تحدّثوا عن وجود أخطاء في السياسات الاقتصادية المتّبعة قبل عام 2011، وأثرها على الوضعَين الاقتصادي والاجتماعي، بدءاً من سياسة الانفتاح غير المضبوطة، إلى تبنّي نهج اقتصاد السوق الاجتماعي، مروراً بسياسة التمويل بالعجز وسياسة الدعم وغيرها، والتي تراكمت نتائجها السلبية في ظلّ تهرّب حكومي من الاعتراف بها حتى جاءت الحرب، لتتسبّب آثار هذه الأخيرة، إلى جانب تلك التراكمات وعوامل أخرى، بتدهور متسارع في الأوضاع الاقتصادية بدءاً من عام 2020. وتالياً، فإنّ أيّ مقاربة جادّة لا بدّ أن تستدعي أولاً الاعتراف بأخطاء الماضي وسياساته، التي لا يزال معظمها مطبّقاً راهناً. وهذه المراجعة، بحسب المفكر الاقتصادي منير الحمش، «مطلوبة في جميع الأحوال، وتصبح مطلوبة وملزمة أكثر بعد الأزمات والحروب، وذلك من أجل تلافي الأخطاء لدى وضع الخطّة الجديدة. وعملية المراجعة هذه تحدث في مختلف المستويات وصولاً إلى مستوى متّخذي القرار». وفي الاتجاه نفسه أيضاً، يرى الباحث الاقتصادي، فادي عياش، أن المراجعة مفيدة «عندما تهدف إلى تصويب السياسات ومعالجة انحرافاتها، وبالتالي بناء سيناريوات بديلة أكثر فاعلية. لكن في واقعنا الراهن، فإنّ هذه المراجعات تحكمها الظروف ومتغيّرات الأزمة والحرب، إضافة إلى المتغيّرات الإقليمية والدولية. ولذلك، كانت بحكم الضرورة والواقع، وليس بحكم الإدارة والتخطيط. وفي جميع الأحوال، فإنها تُعدّ خطوة مهمّة لتصحيح المسار ومعالجة آثار السياسات» التي كانت قائمة.
أيّ مقاربة جادّة للأوضاع لا بدّ أن تستدعي أولاً الاعتراف بأخطاء الماضي وسياساته


كذلك، ثمّة اتفاق بين الاقتصاديين على السياسات التي يفترض أن تكون محوراً للنقاش والمراجعة، قبل صياغة أيّ وثيقة وطنية تتعلّق بمستقبل البلاد في جميع المجالات والقطاعات. وهذه السياسات، يلخّصها الحمش، في حديثه إلى «الأخبار»، بثلاثة أخطاء: «الأول، الاستجابة لمتطلّبات صندوق النقد والبنك الدوليَّين والشراكة الأوروبية، واتّخاذ السياسات الليبرالية الجديدة كأساس في تطبيق السياسات. وهذا له أساس تاريخي يعود إلى ما بعد حرب 1973، عندما تدفّقت المساعدات العربية من الدول النفطية، حيث جرى اختيار قائمة من المشاريع تبيّن لاحقاً أنها بلا دراسات جدوى اقتصادية جدّية، فضلاً عن الأخطاء المتمثّلة في طريقة اختيار تلك المشاريع، وأماكن تموضعها، وطريقة تنفيذها، واختيار التكنولوجيا المناسبة، وصياغة العقود وإجراءات الاستلام؛ وكانت النتيجة ضياع فرصة العمر في تحقيق تنمية حقيقة. وفي بداية الثمانينيات، بدأت تَظهر النتائج المدمّرة، خاصّة بعد توقّف المساعدات العربية، فكان أن حدث جفاف في رصيد العملة الصعبة، وتأخّر في إنجاز المشروعات، وفقدان للمواد الأساسية في الأسواق، ما أدى إلى غلاء الأسعار».
أمّا الخطأ الثاني، فكان «السماح للتجار باستيراد المواد الأساسية التي كانت محصورة بمؤسّسات التجارة الحكومية، ما انعكس في التضخّم وانخفاض سعر الصرف والغلاء، وتالياً انزلاق السياسات الاقتصادية نحو مزيد من الأخطاء بعدما تصوّر أصحاب القرار أن الحلّ هو القطاع الخاص والانسحاب التدريجي من الشأنَين الاقتصادي والاجتماعي». ثم جاء الخطأ الثالث «عندما تبنّى الحزب سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي كعنوان يخفي السياسة الحقيقية المتّبعة، وعنوانها إلغاء تدريجي للدعم المقدّم للمستهلك والمنتج وانفتاح الأسواق والتجارة الخارجية وإلغاء دور نقابات العمال».
وبشكل أعمّ، يحدّد الاقتصادي شادي أحمد، السياسات الأَولى بالمراجعة، بأربع، هي: «سياسة توزيع الاستثمارات؛ فمثلاً في الاستثمار الصناعي تمّ الاعتماد على البؤر المتمثّلة في المدن الصناعية والتي من سلبياتها أنها نزعت من الضواحي والأرياف فرصة الاندماج مع المنشآت الصناعية لتحقيق تبادل منفعي، وحدث انفصال بين الاقتصادَين الزراعي والصناعي؛ سياسة توزيع الثروة حيث كان 22% من السوريين فقط يستفيدون من الناتج المحلي و78% كانوا خارج التنمية؛ سياسة البنك المركزي والتي هي بحاجة إلى إعادة هيكلة جذرية من حيث برتوكول التدخّل وبرتوكول التضخّم للتحكّم بالسوق بشكل مباشر؛ سياسة الدعم عبر إعادة فلسفته بحيث يتمّ التحوّل من دعم الاستهلاك إلى دعم الإنتاج».

لكن ما الفائدة؟
ماذا بعد هذا الاعتراف؟ هل سيتمّ فعلاً تصحيح تلك السياسات؟ بحسب ما يعتقد عياش، فإن «الإجابات يحكمها الواقع؛ فمثلاً، واحدة من السياسات التي تمّت مراجعتها هي سياسة الدعم الاجتماعي، فهل الإجراءات البديلة أدّت إلى نتائج أفضل مجتمعيّاً؟ أضف إلى ذلك، السياسات التي اعتمدت على التمويل بالعجز... فهل تغيّرت بعد مراجعتها؟ أم ما زالت مستمرّة؟». ويضيف: «من حيث المعطيات المتاحة وتحليل نتائج المراجعات، يمكن الاستنتاج أن الهدف الفعلي كان خفض عجز الموازنة بالدرجة الأولى، ولذلك، لم يلمس المجتمع أيّ تأثير. وأعتقد أن السبب هو سرعة المتغيّرات المحلّية والدولية وضعف الاستجابة، ما أدى إلى تعميق الركود حتى وصل مرحلة الكساد، وبالتالي، ثمة ضعف شديد في الطلب الفعّال ناجم عن تراجع كبير في القدرة الشرائية، ومترافق مع انخفاض كبير في المعروض السلعي بفعل تضخّم التكاليف ومحدودية الطلب. وهذا ما أوصلنا إلى مرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد، ألا وهي مرحلة الكساد التضخمي الجامح. وهذه هي النتيجة الأسوأ».