إذا كنت عربياً، من مواليد نهاية التسعينيات، وتتابع دوري أميركا اللاتينية لكرة القدم، فربما سيكون اسم خوان رومان ريكلمي أليفاً على مسمعك. ستكون، على الأرجح، قد شاهدت في إحدى الليالي مباراةً للبوكا جونيور معروضة على التلفاز بعد بزوغ الفجر بوقت قليل. هذا ليس مقالاً عن كرة القدم أو عن لاعب مارسها وتأثر به طفلٌ عربي كان يعدِه والده بأنه سيوقظه من نومه ليشاهد بطل طفولته. بطل طفولتي كان هذا الأرجنتيني، خوان رومان ريكلمي، وليس أبي الذي كان يوقظني من نومي. بقي أبي وفياً لوعده لسنواتٍ عدّة، دائماً ما كان يوقظني لأشاهد بطل طفولتي. عاش والدي عمره كله بدون أن أستطيع أن أخبره بأنه بعد موته، سيصبح هو بطلي الوحيد.

أعوام كثيرة ستمر حتى يعي ذلك الطفل بأن غياب والده ترك عطباً في روحه، فراغاً لا يملؤه سوى صخب جماهير الـبوكا جونيور.
يسيطر ريكلمي على إيقاع اللعب. كلما كانت الكرة معه ضمن فريقه على الاستحواذ. يتحرك ببطء وأحياناً لا يتحرك، تراه يحسب كل خطوة يخطوها. أحياناً تلمحه يتحرك بديناميكية محددة، تهدف إلى سماع صخب الجماهير وهتافاتها، وكأن هذه الديناميكية تملك سلطة على هذا الجسد. ريكلمي في الملعب مثل الراقص على الحلبة، يعلم أنه مع كل حركةٍ يقوم بها سيسمع ما يحب أن يسمعه. لقد امتلكت الجماهير سلطة على الملك الكسول كما كان يُلقب. لكنها سلطة غير ملموسة، سُلطة أقرب إلى وصفها بسلطة شعورية، ولكنها في النهاية، تمتلك مزايا أي سُلطة، فهي تساوم على ما تملكه، وكأنها تقوم بحركتها مقابل سماعها ما تحب. الغياب والفقد أيضاً لهما سُلطة مشابهة على فعل الكتابة. سُلطة تساوم أيضاً، لكنها سُلطة مشتركة بيننا وبين من فقدناهم. لربما تظن أنك من حين إلى آخر، قادر على استحضار أو استرجاع من تحب، لكنك لن تستطيع فعل ذلك، فالغائب هو من يتحكم في إيقاع ملعب الحياة. تغدو الحياة تحت سيطرة الغائب، حتى الكتابة تكون متوغّلة في الظل وليس في النور، ولو لم تكن تعلم ذلك. وكأن الأمر برمته يشترط أنك إن نجحت وأحضرت ذلك الغائب، فعليك أن تجترّ معه ذكرى بطل طفولتك، غيابه أصبح يجترّ حضور ذاتك، ذاتك التي عليها أن تقبل حقيقة أن حضوره يعني موتها.
لا يُذكر ريكلمي إلا داخل جماعة البوكا جونيور. ربما لن يتذكره أحد من جماهير الأرجنتين إلا جماهير البوكا جونيور. لا يحظى ريكلمي بما حظي به مارادونا وميسى أو حتى باتيستوتا. هو لاعب كسول، يُخالف تعليمات المدرب، لا يهتم بمستوى لياقته البدنية، لكنه استطاع أن يعيش داخل جماعةٍ ما، وسط مدينة ما، وهذه الجماعة ستحميه من النسيان. ريكلمي كالسمكة التي ستموت إن خرجت من المياه، هو كالطائر الذي لا يستطيع الخروج من سرب جماعته. على هذا النحو، إن ريكلمي لا يتمتع بنفسه إلا وهو وسط الجماعة. الأمر نفسه ينطبق على أبي، وكذلك الأمر على مطاردة غيابه. أنا أعيش وأكتب في مدينة ما صنعه غيابه. أنتمي إلى جمعٍ من النصوص الذي يطارد غيابه. الكتابة نبعت من غيابه. الكتابة علّة هذا الغياب وهي لا تملك سلطة مطاردته لأن السلطة تكمن في أيدي الغياب. وبهذا الشكل ليس غريباً أن تكون كتابة برونو شولتز كلها تدور حول غياب الأب، وبناء مدينة موازية للمدينة التي عاش بها. نبني مدناً وزمناً خاصاً بنا وحدنا، وحده الموت يصنع زمناً خاصاً ومدينة خاصة. والرابط بين غياب أبي وبطل طفولتي، أن كلاً منهما صنع زمنه الخاص ومشى وراءه. غياب أبي خلّف لي زمناً خاصاً أحاول أن ألحقه، وأشقّه بالكتابة.
في مونولوج «نص الغياب» يكتب الشاعر اللبناني وديع سعادة-1948: «لكأن الوقوف هو كلّ المسافة، كلّ الطريق». هذا هو تحديداً ما مارسه رومان ريكلمي مع الكرة. لقد أدرك أن الجري ليس كل شيء، وأن الطريق ربما يكون في الوقوف وحده. وهذا ما تعلمته أنا من بطل طفولتي، إن الوقوف لربما يوضح الرؤية، وأن الكتابة ابنة الغياب؛ ابنة العمى، العمى الذي يخلفه غياب الآخر. أنت لا ترى الآخر الميّت، لكنك ترى بقايا ذكراه. الكتابة تستطيع أن تحضر صوت الغائب، هو صوت بلا صخبٍ وأهازيج، أي إنها تحضر صوت صمته، تجترّ أشباحه، والكتابة لا تكتمل إلا بقراءة صمت الكاتب، ولا تكتمل إلا بموته، فأنت تموت وأنت تكتب، تفقد ذاتك في الكتابة وخصوصاً إن كانت تلاحق أثر الفقيد. تكتب بينما يحركك صوته، تماماً مثلما تتعامل الجماهير مع ريكلمي، إذ تصمت عندما لا تكون الكرة معه. الكاتب يصمت أيضاً كالميّت عندما يكتب عن الغائب، الكاتب يموت فعلاً كلما حاول أن يكتب عن الغائب.
يتساءل وديع سعادة في النص المذكور أعلاه: «هل نحن إذاً نتاج ميتات متكررة، لا نتاج ولادات؟ ولن تكون لنا لغة، لن تكون لنا حياة، إلا بانبعاث القتلى؟» ربما من الممكن أن نستنبط من هذا البيت أن الكتابة تولد من قلب موت آخر، عندما نستدعيه، ونطارده، وعندما نحاول اجتراره غصباً عن صوت الصمت. بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين، والتي يقبع فيها نادي بوكا جونيور، مصابة بجرح لا يستطيع أحد ضمده، لأن ريكلمي غاب، وكل كتابة تولد من جرح هي كتابة تولد بين لحظة صخب الأهازيج والصمت.
لا أذكر تحديداً إذا أحببت ريكلمي لأنه لاعب لا يخضع لأي سلطة إلا لسلطة الجماهير أو أحببته لأن من خلاله استطعت اجترار ذكرى غابرة من طفولتي تخص أبي، ذكرى صحو أبي باكراً لكي يطعم العصافير ولكي يوقظني لأشاهد بطل طفولتي، ولكنني الآن وأنا على قرابة الربع قرن اكتشفت أن بطل طفولتي كان أبي، أبي الذي أطعم العصافير وجعلني أشاهد ريكلمي.