أشاهد الجحيم في كل لحظة أحياها في عالمنا العربي. في كل لحظة أنت عرضة لتكون ضحية هالكة، وفي أفضل الأحوال إذا نجوت من الكوارث والأزمات، ستكون معرّضاً لترى بأمّ العين أقصى أنواع المشاهد ألماً. الواقع الذي نعيشه يشبه الجحيم، وقد ولّد لديّ شكلاً من أشكال البلادة والصمت. عندما يحلّ الصيف وترتفع درجات الحرارة، يصبح الجحيم واقعاً لا مجازاً، وللهروب من ذلك أمارس تمارين عدة أسميها «صلاة الهروب من الجحيم»، منها: إغلاق العينين أثناء السير لثوانٍ، شرب فنجان القهوة ببطء، القراءة لأطول مدّة ممكنة، قراءة الشعراء اللاتينيين، وأخيراً وبعد قراءتي لرواية «نحو الجمال» للروائي دافيد فونكينوس، أضفت صلاة جديدة على تماريني، وهي متابعة فنّ الرسم والتمعّن باللوحات وتفحّص الجمل التي تُكتب عليها كما يرد على تطبيق تويتر سابقاً، إكس حالياً. هربت من قراءة «الجحيم» الذي كتبها دانتي ألييغري وقد عرّبت بعضاً مما كتبه من النسخة الإنكليزية. هذا القليل الذي عرّبته كان بغالبيته يتحدث عن القسوة، الألم، واهتزاز اللسان عبثاً. إنّ النجاة من الجحيم يفرض علينا التخلّص من مناخه، أي تجاوز البلادة التي أنجو منها عبر «صلوات» الهروب، ذلك في قراءة الشعر، والتمعّن في لوحات الرسم، وتحديداً اللوحة التي رسمها الكلاسيكي البلجيكي، يان بروخل (1568-1625) -نجل بيتر بروخل الأكبر (1525-1569) وشقيق بيتر بروخل الأصغر، الثلاثي العائلي المشهور بفن النقش والرسم- المعنونة بـ«الجحيم». هذه اللوحة ارتبطت باسمه، وأصبحت دلالة تميزه عن أبيه وأخيه، الجحيم وقسوة العالم السفلي الذي رسمهما يان بروخل، وقد أصبحت لي عادة أن أتمعّن بلوحته كل يوم في هذا الصيف في تمرينٍ يشبه الصلاة، لأن اللوحة مثّلت لي قسوة العالم الحقيقي، لكنها أيضاً علمتني أن الجحيم هو العالم الذي نحيا فيه من دون حب أو قراءة شعر أو تورط في الفنّ.
يان بروخل، «الجحيم»

في رواية «نحو الجمال» التي كنت أقرأها، يهرب الأكاديمي المرموق من عمله لكي يصبح حارساً على متحف. هذا التحول أتاح له الهروب من جحيم الحياة إلى مشاهدة اللوحات. هذا الهروب أثّر بي، وساعدني على خلق «صلوات الهروب من الجحيم». رواية «نحو الجمال»، هذا العمل الذي أعود إلى قراءة أجزاء منه عند كل صيف ساعدني في ذلك، لكنه تحديداً أثّر على علاقتي بمعاينة اللوحات... بفنّ الرسم. لم أكن اهتم قبل ذلك بمتابعة الرسم. لم يكن يخطر لي أن في يوم من الأيام، ما ستكون هذه الممارسة جزءاً من «صلواتي». لكن ما هو مثير أنّ الأثر التي تتركه لوحة ما هو فكرة أن هناك من سبقك في تصوّر ما تحياه. تأثرت بشدة بلوحة يان بروخل ليس لأنها فن رفيع، بل لأنها فن انتقائي. هو فن يمكن القول عنه إنه نخبوي، يؤثر على نخبة بعينها، يؤثر على رؤيتها لماضيها ومستقبلها. إن الشعر الحقيقي يسمح برؤية اللحظة التي كُتب فيها ذلك الأمر. يستطيع الواحد منا أن يؤول شعر المتنبي أو بشار بن برد على يومه، يستطيع أن يبصر المحبة من بيت شعر قد قرأه لهما، والمحبة ناتجة أساساً من اللحظة التي يسرقها أحد منا ليقرأ أو يشاهد لوحة ما. المثير حقاً أنّ المحبة التي هي وحدها قادرة على انتزاع الجحيم بعيداً منا، يمكن أن تكون بنفسها الجحيم ذاته، لكن علينا تعلم النجاة من الجحيم عبر «الصلوات»، في قراءة الشعر، مثلما أفعل خصوصاً عندما أقرأ الشاعر الإسباني إنخل غونثالث بالنثيا. يعتمد بالنثيا في كتابته الشعرية الإيجاز اللغوي والتكثيف وكأنه يسرق أثر كتابته الشعر اللحظات لكي يهرب من جحيمه الخاص. لم يلتق بالنثيا بيان بروخ، لكن ما فعله كلاهما كان يرتكز على إطفاء نيران الجحيم الذي نحياه في كل لحظة. كتب بالنثيا:
«الآن وقد خوت روحي،
شأنها في مرات كثيرة،
أتأمل مرور الأيام البطيء،
تلك الأيام التي تمضي بي
لا أدري إلى أي وجهة معتمة،
وأنا المتوجس الذي زال عنه الفضول،
إن هذا الذي ترون ها هُنا
ما هو إلا: حطامٌ عنيد
يقاوم الخراب الممتد له
يناضل في وجهِ الريح
يمضي قُدماً
عَبْر دروب لا تُفضي إلى أي مكان».
لم يلتق يان بالشاعر بالنثيا ولكنهم سوياً أزالا عني جحيم الحياة. الجحيم الحاصل والذي لا مفرّ من حقيقة وجوده، وقد عبر كلاهما عنه كل على طريقته. مع شعر بالنثيا ولوحة يان، تمنحني هذه «الصلوات» القدرة على إزالة التوجّس من المستقبل. هذا المستقبل الذي لا نجاة منه إلا بالشعر واللوحات والفن والمحبة. جحيم يان لا يحوي على حب لكنه يعبّر عن وضع المستقبل، والجحيم الذي تخلص منه بالنثيا من خلال كتابة الشعر غارق بفيض من المحبة. والحب هو نجاة حقيقية من تهديد المستقبل. المحبة التي بدأت من الأساطير حيث حُورب الموت بالحب وانتهت بشعراء اختزلوا حياتهم في لحظة العشق في تجارب عاطفية ووجدانية أدمت قلوبهم. هم الذين هربوا من دروب الجحيم بالحب والمحبة، منهم من رسم ومنهم من كتب. يقول يان بروخل إن الحياة كلها اختُزلت في تلك اللحظة الخاطفة. وربما جميعنا نحاول الهروب من الجحيم عبر لحظة خاطفة، مثل تلك التي رأى فيها حبيبته، كما أحاول أنا خطف هذه اللحظة من الجحيم الصيفي والحياتي بالقراءة والمشاهدة، كتب باتريك زوسكيند في كتابه «ثنائية عن الحب والموت» أن الحب والخيال هما ضد الموت. الخيال الذي يقصده زوسكيند هو الفن والشعر... هو كل ما تصبو إليه «الصلوات» التي أتلوها.