البحث عن الهويةأقف على الشاطئ وقدماي تلامسان زبد البحر. خلف ظهري هناك العائلة والأصدقاء وهموم الحياة. جميعنا حضرنا لنودّع أيام الصيف التي تتسم بالمرح لنستقبل سوياً موسم تساقط أوراق الشجر وبداية الخريف. أمام عينيّ يتأرجح قارب صغير بوتيرة تشبه البندول، وجدتني أتساءل لماذا لا يستمر الصيف إلى الأبد؟ الصيف يمثل البحر بالنسبة إليّ، والبحر - كما عهدناه - هو الحرية والمغامرة، هو رهان قرصان مع كل موجة على فرصة إيجاد الكنز. وهذا التصور للبحر هو ما أخذني إلى التفكير في مسلسل «one piece»، الصادر حديثاً على منصة نتفليكس، والمأخوذ عن المانغا اليابانية التي تحمل الاسم نفسه. لم أستطع أن أصرف تفكيري عن هذه الحكاية المروية في إطار من الفانتازيا والمغامرة. ورغم البساطة التي تبدو عليها الحكاية، ولكنّها تحمل كثيراً من الفلسفة الإنسانية بين طيات الأحداث على مدار الحلقات الثمانية، إذ يمثّل بطل السلسلة، مونكي دي لوفي، محاولة لإعادة تعريف القيَم التي يقدّرها البحر، والتي تسببت التعقيدات الحياتية في تغييرها مثل الصداقة والعائلة والحلم. أن تكون الصداقة علاقة حيّة أساسها الصدق في مسمّاها وليس الزيف والتصنع والخداع لتحصيل المنافع، أي يضحّي الصديق من أجل صديقه ويخبره الصدق دائماً، وتكون العائلة أكبر من رابطة الدم والقرابة، بل تتجاوز هذا نحو علاقات إنسانية، وتقديس الحلم ليس حلمك فقط، بل قيمة الحلم المطلقة ألّا نقف أمام الحلم أو نعيقه.


بطلنا القرصان الذي يطمح أن يُنصَّب ملك القراصنة بإيجاده لكنز القرصان «روجر الذهبي» المسمّى كنز «one piece» (قطعة واحدة)، والذي يسعى كل قرصان إلى العثور عليه طموحاً كان أم طماعاً. على هذا النحو، يبدأ الكابتن رحلته مع طاقمه الذي انضم إليه باحثين عن كنز «one piece». إن بوصلة القرصان لوفي واضحة وبسيطة جداً: لديه حلم ومدفوع بشغفه يتبع هذا الحلم من دون يأس، إما لتحقيقه، وإما الموت في سبيل تحقيقه.
يستمر لوفي في تقديم التعريفات الجديدة مثلما فعل مع قيم كالصداقة والعائلة والحلم، فهو يكسر صورة القرصان النمطية كما نعرفها، ذلك الرجل الأعور ذو المخلب والصوت غير المحبب، والذي يقوم مع عصابته بعمليات السطو على السفن ويشن حملاته الشريرة على الأبرياء، ويقطع طرق الملاحة رافعاً راية سوداء مرسوم عليها جمجمة مخيفة. القرصان لوفي عكس هذه الصورة، فهو يطرح تعريفاً جديداً للقرصان. يقدم إلينا قرصاناً طيباً لديه حلم، ويرتدي قبعة من القش، ويحب الجميع، كما أنه يحب الطعام، متفائل دائماً ويحمل ابتسامته المرسومة على وجهه، حتى أنك قد تظنه أبلهاً، ولكنه في الحقيقة قرصان يدافع عن الأبرياء ويحميهم.
التورط العاطفي مع البحر، وبالتبعية مع مسلسل «one piece»، يجعل من النظر إلى هذا المسلسل على نحو موضوعي أمر صعب. لكن هذا لا يمنع أن البراعة الفنيّة واضحة في العمل على أدق التفاصيل، واختيار الممثلين كان موفقاً في التقريب بين رسوم المانغا والشخصيات الحقيقية الواقعية، حتى أنك قد تظنّ أنهم شخصيات مرسومة بعثت بها الحياة. ولكن أكثر ما يمكننا قوله عن المسلسل أنه صادق في تعبيره عما يمثله، وفي غاية الخفة واللطف، ببساطة أحببته وأحببت لوفي إذ وجدت فيه تعريفاً جديداً للإنسان. هذا الإنسان الذي يتشكل في صور مختلفة، فقد يكون طباخاً أو نادلاً، جندياً أو طبيباً، حتى أنه قد يكون قرصاناً أو كاتباً... ولكن تلك الصور المتعددة كلها لا تُشكل جوهره ولا تمثل هويته الحقيقية، فهوية الإنسان تتحدد بما يتمثل فيه من قيمه الحضارية التي يعبّر عنها ويحميها، وقدر استطاعته الابتعاد عن الوحشية، وعبر النظر إلى شخصية لوفي، إننا نجد جلياً أمامنا أن أهم ما يميز الإنسان هو ملاحقة حلمه، هذا الشيء الذي تعرف أنك تريده أكثر من أي شيء آخر في الحياة... ومن هنا، يمكننا القول أن أكثر ما يميز الإنسان ويحدد هويته هو قدرته على الحلم.

البحث عن الحلم
يتمثل حلم الكاتب في الكتابة ذاتها. فهو يحلم أن يكتب كلمة بعد كلمة وسطراً بعد سطر، يستكشف عبر عملية الكتابة أمراً جديداً حول ذاته بدايةً ثم عن الحياة برمتها، فيخلق مما كتبه حلماً جديداً بالكتابة ثم يواصل ويكتب ليلاحق هذا الحلم ليلقى نفسه في نهاية الأمر يعيد إنتاج موتيفة بينيلوبي، زوجة أوديسيوس الوفية، التي كانت تغزل فستانها في النهار وتفكه في الليل لتعيد الكرّة في اليوم التالي إلى أن يعود زوجها الغائب.
البحث عن حلم الكتابة أشبه بمغامرة القرصان في بحثه عن الكنز الأسطوري. فهو على سفينته مع طاقمه وسط البحر لا يستطيع أن يرى له نهاية، فقط يشعر بالضآلة في حضرته، ومدفوعاً بالأمل يبحث عن اليابسة بكل الطرق الممكنة، ويلتمسها في كل نظرة حوله، حتى يرتاح قليلاً ثم يعود إلى سفينته ليعاود وجوده الحالم ويكمل رحلته بحثاً عن يابسة جديدة من جديد.
والقرصان في حاله تلك يشبه حال الكاتب الذي تمتد الحياة حوله وهي في حالتها السائلة، وهو لا يملك من أمر الحياة إلا آلته الكاتبة التي يجلس أمامها وهو يلتمس الفكرة في كل نظرة حوله، يكتب ثم يكتب حتى يحققها ثم يغرق مرة أخرى في سيولة الحياة باحثاً عن فكرته الجديدة.
كما يجابه القرصان أهوال البحار السبعة بين ندرة الطعام والعواصف والوحوش البحرية الأسطورية المرعبة، يجابه الكاتب أهوال المسودات والأعمال غير المنتهية ويغرق في التنقيح والمراجعة.
أما عن حال الاختلاف بين القرصان والكاتب، فيتمثل في الطاقم البحري الذي يساعد الكابتن حتى يصل إلى ذلك الكنز الذي يسعى خلفه، فهناك ملاح يسيّر السفينة، وطباخ يطعم الطاقم، ومساعد يستشيره في غامض الأمور، ومقاتلون يدافعون عن السفينة ضد أي هجوم، وعمال يرفعون مرساة السفينة وينظفون سفينتهم، وبحارة يبحرون مع قائدهم وهم يغنون ويمنون نفسهم بالثراء والشهرة، أما الكاتب فيبحر وحيداً بلا طاقم يساعده، ليس لديه سوى التجربة ولا يتسلح إلا بالمعرفة، تلاحقه الكلمات كالأمواج وتهرب منه الصور بين ضباب الطموح للكمال، يبحث الكاتب عن الجمال في كل شيء حوله، وكثيراً ما يواجه اليأس، ودائماً ما يقاوم وحيداً حالات العجز الكتابي، وصراع العيش والنجاة في الحياة من دون بحارة يغنون له حتى تهون مشقة الرحلة، يكتب وهو لا يسعى للثراء أو الشهرة، إنما ما يهمه كله هو تحقيق كتابة جميلة.

البحث عن الحياة
إن هوية المرء تتمثل في قدرته على أن يكون لديه حلم. وهذا الشغف الذي يدفعه ويحركه إلى تتبع هذا الحلم ومطاردته. هذا هو تحديداً ما يكشف للإنسان طبيعة الحياة التي يحياها، أو نستطيع القول طبيعة الحياة التي يبحث عنها حتى يحياها ويتحقق عبرها. أن تتذوق طعم الحياة هو أمر متوقف على مدى تصديقك لذلك الحلم الذي اخترته وآمنت به، وآمنت بنفسك عبره. أن تطرح على نفسك أصعب الأسئلة: من أنا؟ ما هو حلمي؟ هل هذه حياتي؟
سوف يعرف الإنسان طبيعته ويكتشف جوهر حقيقته حينما يعرف جيداً ماذا يستطيع أن يفعل. وسوف يعرف ما هو حلمه وشغفه، حينما يعرف بدقة ويخبر نفسه بشجاعة صادقة ماذا يريد. وسوف يتأكد إن كانت تلك حياته التي تمناها ويستحقها حينما يدرك ماذا عليه أن يفعل.
في تلك اللحظة التي تراجعت الموجة ببطء إلى الخلف، كانت قدماي مغروستين بعمق داخل رمال الشاطىء الرطبة. نظرت إليها ثم استدرت ونظرت إلى الخلف لأرى العائلة والأصدقاء، يتحدثون سوياً، منهم من يأكل ومنهم من يشرب، الأطفال يلعبون بخفة مفرطة وعلى وجوههم ترتسم دهشة إثر حجم الموجات الكبيرة التي تجري إليهم. هذه السعادة الصيفية المرحة ونظراتهم المحبّة الصادقة إليّ، أدركت حينئذٍ أن حبي لهم هو ما أستطيع وهو ما يؤكد قيمة الإنسان داخلياً، التي تجعلني أتمسك جيداً بحلمي، فالكتابة من أجلهم هي ما أريد، والعيش إلى جوارهم هو ما يجب لأحيا تلك الحياة التي دوماً بحثت عنها وتحققت عبرها رغم همومها، ورغم أن الصيف لن يستمر إلى الأبد.