«هناك طريقة يسيرة للتعرّف إلى مدينة ما: أن تعرف كيف يَعمل فيها سُكّانها، وكيف يُحِبّون، وكيف يموتون»- الطاعون، ألبير كامو.
لكلّ مكان مساحته، ولكلّ شخص مسافته، ولكلّ مدينة دمارها وجلّادها. بين نفسٍ وآخر يضيق الهواء، وبين صوت وصمت تكون القذيفة. في هذا الصدد ومثل جميع الناس، إننا نفكر بأنفسنا، أو بعبارة أخرى نتذكر إنسانيتنا ومن أجل ذلك فإننا لا نؤمن بالبلايا لأنها شيء لا يمكن لأحد التحكم به. نكتفي بقولنا إنه يوم مزعج آخر وسيمرّ. ولكن في الحقيقة هذا اليوم المزعج لا يمرّ دائماً، فليست كلّ الغيوم مثل بعضه حتى ولو كانت السماء واحدة.
في عالمنا العربي لا يكون للإنسان الحيّ أيّ قيمةٍ إلا عندما يكون ميتاً. بعد الموت يجيء آلاف التنديدات والإدانات بحق الموت نفسه. إنّ ملايين الجثث المنتشرة في الماضي ليست إلا دخاناً في مخيّلة، وهذا ما يسمونه «التاريخ» أو بعبارة أدق بالأمجاد. أما في عالم حقوق الإنسان، فهناك سينما عالمية خاصّة تعرض أفلاماً عن «الحقوق» وعن «الإنسان». تحشد سينما العالمية للإنسان آلاف الأشخاص إلى قاعتها، وتعمد على إماتتهم بالجملة. لهذه القاعة ثلاث وظائف: القتل الجماعي بالأسلحة المحرّمة دولياً، وقاعة للإبادة السريعة في قصف الطائرات، والأخيرة وهي الأخطر: القتل باسم الإنسانية. تخيل معي عزيزي الإنسان أنك تقف في الطابور تنتظر موتك، ثم يصدر لاحقاً في نشرة الأخبار البيان الآتي: تهافت الناس على شراء الأكفان. تكتمل حكاية الفيلم ويبلغ عنوانه أقصى معانيه: إنّ موتهم هو خلاص البشرية.
من المفارقات العجيبة والذائعة الآن هي الإدانات الصادرة من شخص يدّعي الإنسانية، لكنه يؤيد القاتل. في كلّ مترٍ تجد جرذاً بذيل طويل في هذا البيت، المدينة، العالم، سمّها ما شئت. يمتد الذيل من الحضارة البدائية إلى تاريخنا العربي الرديء. إنّ هذا الوباء المنتشر في شوارعنا، صار منهجاً يُتّبع في مدارسنا. نعلّم أولادنا دروساً في الإبادات ولا نعلمهم العدّ طبعاً لأننا وعبر العصور لم نُحسن الرياضيات. لو صففنا الجثث على مر الحضارات ولكل جثة طول يبلغ المتر والستين ماذا سيصبح العالم... جثة كبيرة؟ صفقوا يا طلابي إنها الإجابة الصحيحة!
أي قصف هذا الذي يشبه سعال المصابين بالطاعون. أي كرنفال من الصراخ الذي لا ينتهي هذا، هل سوف تتسع لنا الأرض؟ بوسعنا استحضار ما قاله لوكريس في أثينا «كان الأموات يحملون إليها في الليل، ولكن كان المكان يضيق بهم، فيتقاتل الأحياء بالمشاعل ليفسحوا مكاناً لمن هو عزيز عليهم، مؤثرين خوض صراع دموي، على أن يتخلّوا عن جثثهم». آلاف القتلى إلى حدّ الآن، نعزّي أنفسنا ونردّد الجملة الشهيرة «لم يمت أحد من الجوع»، لكن الموت هو قتل عبر القنابل والرصاص... والوعود. حدّق بأم عينيك وانظر: إنّ هذا العالم لا يجتمع سوى على المآسي. مضيتُ وفي سري أقول، كم أنت رقيقة أيتها المقبرة، كم أنت قاسية أيتها الزهرة فوق المقبرة.
كلماتنا ليست مسألة لغوية الآن وليست افتراضاً حول لعبة الكلمات المتقطّعة. إنها مسألة وقت، وموت، وعن ماهية اللغة الحقيقية عند البشري. أيها الشيخ لا تُلقنّي الشهادتين، إنّ سماع أنفاسنا وهي تُحتضر أمرٌ مستحيلٌ يشوّش عليها صوت القصف، والطائرات، وخطاب الرؤساء والملوك، والأغاني الثورية، وبكاء ابني تحت الردم، فقد سمع الله لمن حمده.
انتظري قليلاً أيتها الهيليكوبتر فوق رأسي. انتظري أيتها الذبابة ريثما تنهي أمّي عتبها في أنني لم ألحق بأخي الشهيد، وانتصري أيتها الدبابة ودوسي، إن نزيفي ينتشر هنا وهناك، وسأصنع منه حبلاً وأتسلق عيون المتفرجين على الورود وعلى الموت الذي يتداعى من عرقي ويكرج على الخريطة العربية.
تذوب الشموع أو لا تذوب
أشعل في دمي الغابة
من الجنوب إلى الجنوب وفي الجنوب
اجعل من عظامي أطفالاً
وابني من أشلائي أعمدة بيتك
وافقأ بسكين مطبخي عين الغروب.
يا ابن المخيم ستسندك الرياح لا تخف. إن دخل الطاعون رئتيك فتنفّس عبري، واصنع نشيدك من صوت سيارة الإسعاف. قاوم معي، إنّ السلاسل التي تجرّ العالم المربوطة بقفا الملوك العفنة، العاجزين عن الابتعاد عن كراسيهم، فلا يملكون الواقع ولا الخيال. وإنّ المقلاع الذي وضع فيه الطفل حجراً سيضع فيه العالم ويصوب نحو السماء ويشدّ إلى الوراء؛ اذهب قبل بزوغ الفجر وانفجر، وأسقِط البداية والنهاية عن الخريطة.