إن الكلمة غزال مفخّخة فانتظريني أيتها الغابة! هكذا قالها، ومضى حاملاً عود الثقاب الأخير. وبأنفاس متعبة ردد: الغراب في أنفاسنا يلتمس البياض فيه، وربما ما كان يعزيني حق، أن هنالك سجناً أضيق من سجني. وفي البلاد راح عمر يردد ويغني «يا طالعين الجبل لل». وحوله المصفقون يتساءلون هل عمر لديه لدغة في حلقه حتى يعيد بين كلمة وأخرى «لل»؟ واختلف المتفرجون عليها منهم من قال أنه جُنَّ، والبعض الآخر اتفقوا أنه لا بد من معالجته، والبعض قال، وكيف لعمر أن يخوض الجبل وهو بلا قدمين؟ إذ إنّ الاحتلال الإسرائيلي قصف بيته فماتت أمه وأُسر أباه، وأخته، وفقد قدميه... هل لا يزال بوسع الإنسان الركض بعد كل ذلك؟هذه الحفلة الأخيرة لعمر يحضرها أناس من كل بقاع الأرض، وتبثها الملايين من المحطات الفضائية. ينطلق عمر بصوته لا بقدميه، ويردد مرة أخرى «يا طالعين الجبل لل». وتبدأ اللام الأولى، «ل»، من الحاضر إلى اللام الثانية والتي ترمز إلى يوم القيامة، وبينهما كان يسير المجاهدون لتحرير أسراهم، ولتحرير والد عمر وأخته هذا الذي تبقّى من قدميه المقطوعتين. مشى صوته عوضاً عنهم ومشوا.

«لغز المألوف»، رينيه ماغريت


ومن قدم إلى قدم ها هي الطريق واضحة:
إن أفضل مكان لتخبئ فيه الشجرة هو الغابة، وأفضل طريقة تخبئ فيها صوت عمر هي بين الكلمات، وإن أفضل مكان لتخبئ فيه الصهيوني هو البلاد العربية، الممتدة من العار إلى العار، وللتخلص من الآفة يجب علينا إعادة تطعيمها، هكذا يكون النبات جديداً.
«يا طالعين الجبل لل» إنها بعض الذي تغنت به نساء الأسرى في السجون الإسرائيلية، وبعض الذي صادرته الآذان العربية. إنّ دوريات الشرطة تسجنك لأنك لم تملك رخصة للكلام، إنما للصمت. وجب التطرق هنا إلى ما يحمل الجبل من معاني، وربما أثقلت كاهله نملة، هي نملة واحدة تمتلك هذا الجبل، هذا التجسيد لإرادة الشعب الفلسطيني في الصعود إلى قمته، وما ستواجه النساء على الطريق. في المقابل عندما سأل موسى ربه «قال ربِّ أرنىِ أنظر إليكَ قالَ لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلمّا تجلى ربه إلى الجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً». إن إرادة الله فوق كل شيء، كما ثقة الفلسطينيين بربهم وقضيتهم. وربما تعلّم الفلسطينيون شيئاً عبر السنين وكفوا عن الصعود إلى الجبل لكثرة القمم العربية، وليس استسلاماً منهم أو عن عدم إصرار وعزيمة، إنما سلّموا الأمر أن الجبل سيجعل دكّاً على رؤوس الصهاينة العرب، فلا حاجة للصعود مرة أخرى أبداً. «لل»، ولكل منا لغته، فاللغة في منزل كل واحد منا مختلفة عن لغته أمام غيره، هكذا وجاءت الحرب وأثبتت لنا أن لغة البشرية واحدة، الدمار المطلق. أما لغة الحكام العرب فهي كالآتي: تبييض نوايا، وطناجر، يتبعها شلّة من المغفلين المطبلين المصفقين للطيران الحربي وهو يقصف مدينة بأكملها ويقتل جلّ من فيها.
إنّ اللغة التي تنطق بها الدول العربية هي نفسها التي تتقنها أميركا. لمَ كل هذا الهجوم الشرس على الدولة كذا كذا، هل يغيظهم تطوّرنا؟ نعم القرود تطورت وأنت كما أنت يا ابن الجاهلية الأولى.
يقول الولد الذي هُجّر من بيته:
حاملاً كل الطرقات على قدمي، من ميل إلى ألف أقطعها وتقطعني، ربما حان الوقت لأحمل رسالة الأنبياء، فكل من خطى خطوة مهجراً من بيته هو نبي.
الباب سرّ المنزل وليس قفله، تقول الأم :
لا تفتح «لل» الباب «لل»...غرباء لأن بيوتنا منذ بدء الخليقة بلا أبواب. هذا ونحن بلا يدين أيضاً، واحدة ظلت معلقة في السماء، والثانية لمحكمة العالم الدولية التي اتهمتنا بسرقة بلادنا من أنفسنا.
يقول الولد: إذاً بيوتنا بلا أبواب. ويسأل، هل نحن داخل «لل» المنزل أم خارجه، ومن يحاصر من؟
لقد تم التبرع بمبالغ طائلة نصرة لأهلنا في غزة على عدد رمالنا الكثيفة. وماذا سنفعل بأموالك هل تكفي لإعادة من استشهدوا؟ قدّم المال لأمك أميركا كما كنت تفعل دائماً، وقبّل أيادي البريطانيين كما فعل الشريف حسن قبلك. أوقدوا النار ليس للأسرى فقط، أوقدوها من خليجنا العربي إلى أطراف الأرض. لا داعي للتنقيط منذ الآن، فالموت واحد، لا داعي للتشفير يا نساء الأسرى، ولا لـ«لل»، إن الظلام لا يعني للأعمى شيئاً، أوقدوا النار فبين العربي والعربي ليس شعرة إنما سوراً طويلاً وعليه حراس في كل متر، يا لهذا الحزن الذي سوف يكفي البشرية قرنين.
إن أردت أن تطلق النار على رأسي، وحتى إن كنت غير جدير بالثقة، أتمنى أن أفعل شيئاً لأجلك، أطلق فحسب! فهذا العالم لا يموت من رصاصة مرتين.